المبحث الرابع: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بوطن المسلمين (4)
المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني
سابعاً: الدفاع عنه
للمساجد في الإسلام حرمة ينبغي على كل مسلم أن يحفظها وأن يعظمها، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} الحج30، والمؤامرات تحاك ضد المساجد منذ قديم الزمان، عندما قامت المساجد بدورها الريادي في نشر الإسلام وتعليم المسلمين وغير المسلمين، ونشر العلم بصوره العديدة النافعة، ولهذا صار لزاما على المسلمين أن يدافعوا عن مساجدهم، وأن يحموها من كيد مكر الأعداء،{وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} إبراهيم46.
يقول الدكتور عبد الله قاسم الوشلي: “إن المؤامرة أهدافها رسمت من قديم الزمان، والتخطيط لتلك الأهداف أخذ وقتاً غير قصير، تم في عشرات المؤتمرات، كان يعقدها المبشرون والمستشرقون من نصارى ويهود وشيوعيين”[1].
ومنذ ذلك الحين والأعداء يشنون الحروب تلو الحروب على المسجد، سعياً منهم في تحقيق أهدافهم التي ترمي إلى إزاحة المسجد عن دوره الريادي في قيادة الأمة وتعليمها وتثقيفها. لذلك قاموا بشن الحروب عليه، “حاربوه في رسالته العلمية والتربوية، وحاربوه في بنائه الشامخ رمز الشريعة الإسلامية والتوحيد، وحاربوه في خطبائه وأئمته بمختلف وسائل الحرب وأساليبه الفكرية والمادية والمعنوية. تجمعت كل قوى الكفر الظاهرة والباطنة على هذه الحرب في فترات متتالية وحلقات متسلسلة، يسلم بعضها لبعض، ولما تنتهي بعد، وستستمر ما دام الصراع بين الحق والباطل قائماً، وهو لا ينتهي إلا بقيام الساعة. هذه الحرب انطوت على مؤامرات خطيرة وكيد رهيب ومكر تتزلزل الجبال منه، كما وصفه الله بقوله: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} إبراهيم46.”[2]
ولذلك ينبغي على المسلمين أن يقوموا بواجب الدفاع عن المساجد من كيد الأعداء في الداخل والخارج، من يهود ونصارى ومنافقين وغيرهم. فهم يتواصون فيما بينهم من أجل تحقيق تلك الأهداف الرامية إلى خراب المساجد – خراباً حسياً كما فعل ويفعل اليهود في فلسطين بتدمير المساجد وهدمها، وكما فعل غيرهم في كثير من بلدان العالم العربي والإسلامي. أو قد يستهدف هذا الخراب رسالة المسجد ودوره الريادي، يقول الدكتور الوشلي: “وكان لقوى الكفر الباطنة المتمثلة في المنافقين – عملاء الكافرين – المرتبطين ولاءً ونصرة بالكافرين الأثر البالغ والأنكى في عمق التنفيذ وخطر النتيجة، فكل أمر لا تستطيع تنفيذه قوى الكفر الظاهرة في الأمة المسلمة تسنده إلى تلك القوى الباطنة فتقوم بالدور بأفضل ما يتوقعونه ويريدون أن يحدثوه.”[3]
والدفاع عن الوطن واجب شرعي، لأن الأعداء من أهدافهم الاستيلاء على بلاد المسلمين وثرواتهم وخيراتهم، ومن وسائلهم إخراج المسلمين من بلادهم أو استعبادهم. قال تعالى عن قوم لوط: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} النمل56، وقال عن قوم شعيب: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} الأعراف88.
وإخراج المخلصين من أبناء الوطن من وطنهم هو هدف أهل الباطل والكفر والفساد والنفاق، فما من نبي إلا أخرج من قومة، وما من مصلح إلا وسعى أهل الباطل إلى نفيهم وابعادهم من أوطانهم، ولذلك شُرع الدفاع عن الأوطان بكل ما يملك المسلم من إمكانيات وقدرات، قال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الممتحنة9، وقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ # الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحج39-40، وقال أيضاَ: {قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} البقرة246. يقول الإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله: “وإن كانوا يريدون – من يدّعون الوطنية – أن من الواجب العمل بكل جهد في تحرير الوطن من الغاصبين وتوفير استقلاله، وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضا وقد شدد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد، فقال تبارك وتعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} المنافقون:8، ويقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} النساء:141.”[4]
والدفاع عن الأوطان يكون ضد من يهدد أمن الوطن واستقراره، أو مقدراته ومكتسباته، سواء بالفكر، أو بالسلاح أو بالفساد والإفساد. وكيفية الدفاع عن الأوطان تعتمد على نوع الخطر المهدد للوطن.
ثامناً: أوكار الدسائس والمؤامرات
المساجد هي بيوت الله التي يجتمع فيها عباده المؤمنين، ليستنيروا بنوره، ويستهدوا بهديه سبحانه. لذلك لم يهدأ الأعداء في النيل منها، وإضعاف مكانتها، وتوهين قوتها، فكان منهم من الدسائس ما كان، وأنشئوا أوكاراً لحياكة المؤامرات ضد المسلمين. فكان منها ما هو في صورة مسجد – بهيكله وبناءه – لكنه يختلف عن المساجد الأخرى في الغاية التي أنشئ من أجلها. فمساجد الله بُنيت من أجل العبادة والإرشاد والهداية، وهذه بنيت من أجل الدسائس والمؤامرات والصدّ عن دين الله. يقول تعالى في سورة التوبة: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} التوبة107. فهو في صورة مسجد، لكنه بُني من أجل الكفر وحياكة المؤامرات ضد الإسلام والمسلمين والصد عن دين الله. وقد نُهي النبي r أن يقوم في هذا المسجد الذي لم يُبنى أساساً إلا إضراراً بالمسلمين، وكفراً بالله، وتفريقاً بين المسلمين، وإرصاداً لأعداء الله، قال تعالى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} التوبة108.
يقول الإمام الشوكاني – رحمه الله: “فقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة: الأول: الضرار لغيرهم، وهو المضارة. الثاني: الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق. الثالث: التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى. الرابع: الإرصاد لمن حارب الله ورسوله: أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله. قال الزجاج: الإرصاد الانتظار، وقال ابن قتيبة: الإرصاد الانتظار مع العداوة، وقال الأكثرون: هو الإعداد. والمعنى متقارب.”[5]
ويقول سيد قطب – رحمه الله: “هذا المسجد – مسجد الضرار – الذي اتخذ على عهد رسول اللّه r مكيدة للإسلام والمسلمين، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين، وإلا الكفر باللّه، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة، الكائدين لها في الظلام، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين. “[6]
وقد تختلف أوكار الدسائس من وقت لآخر، ومن مكان لأخر، يقول سيد قطب: “هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين. تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتمترس وراءها وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق!… وتتخذ في صور شتى كثيرة..”[7]
وفي وطن المسلمين تكثر الأوكار التي يتخذها الأعداء منطلقاً لهم للكيد بأبناء الوطن وبمقدساتهم ومعتقداتهم. وهذه الأوكار تملك مسميات براقة، وشعارات جذابة ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله الكيد والمكر والدسائس ضد الإسلام والمسلمين، يتخذها الأعداء ستاراً لمؤامراتهم، ويذْرون بها الرماد على العيون.
وهذه الأوكار لها صور عدة. فقد تكون في صورة حزب سياسي، أو منظمة حقوقية، أو جمعية خيرية، أو حركة شبابية أو نسائية، أو مشروع تنموي، أو مساعدات خارجية، وغيرها من المسميات التي لا يخفى على عاقل ما لها من أهداف خفية للكيد بالمسلمين وبلادهم ودينهم. وللمنافقين دور كبير في تدعيم هذه الأوكار وتحقيق أهدافها في المجتمع المسلم، وقد يتم استغلال الجاهلين أو الناقمين أو المنبهرين بالأعداء لتنفيذ أهدافهم أو لتكثير سوادهم. والتعاون بين الكافرين والمنافقين ليس بغريب علينا، بل إن هناك ترابط وثيق وعلاقة حميمية بين المنافقين وأعداء الإسلام من يهود ونصارى، ذكرها الله عز وجل في قوله: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} الحشر11. فالأعداء غالبا ما يعتمدون – في تحقيق ما عجزوا عن تنفيذه من أهدافهم – على إخوانهم المنافقين ممن ينتسبون إلى الوطن الإسلامي عن طريق هذه الأوكار.
ولهذا ينبغي على المسلمين أن يحذروا من هذه الأوكار التي تهدف إلى الإضرار بالمسلمين، وألا يكونوا لبنة من لبناتها، ودعامة من دعاماتها، وأن يحذروا منها ويبطلوا مخططاتها الخفية التي لا يألُ أصحابها جهداً من أجل تحقيقها، فهم يبذلون من أجل ذلك كل ما يستطيعون، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} الأنفال36.
[1] ) عبد الله قاسم الوشلي. المسجد ودوره التعليمي عبر العصور من خلال الحِلق العلمية – سلسلة نحو النور (9). صـ81.
[2] ) عبد الله قاسم الوشلي. المسجد وأثره في تربية الأجيال ومؤامرة أعداء الإسلام عليه – سلسلة نحو النور (8). صـ 48.
[3] ) المصدر السابق، صـ 48.
[4]) الإمام الشهيد حسن البنا– مجموع الرسائل – رسالة “دعوتنا” صـ19.
[5] ( محمد بن علي الشوكاني – فتح القدير – الجزء الثاني صـ420.
[6] ) سيد قطب. في ظلال القرآن.
[7] ) المصدر السابق.