قراءة كتاب

المبحث الثالث: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بالفرد المسلم كعضو في جماعة المسلمين (4)

المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني

ومن دلائل الوعي والإدراك:

الحرص على وحدة الصف

وفي صلاة الجماعة نجد المسلم يحرص على تسوية الصفوف، وسد الفرج إن وجدت، وإتمام الصف الأول فالأول، وهذا يدل على فهم المسلمين لأهمية هذا الفعل في الصلاة. يقول الدكتور علي أحمد القليصي: “وينبغي على المأمومين أن يسووا صفوفهم في الصلاة، ويكره أن يتقدم بعضهم على بعض أو يتركوا خللاً في الصف، وقد وردت أحاديث في ذلك كثيرة فيها الوعيد الشديد للذين لم يسووا صفوفهم..”[1] ذكر بعضاً منها.

بل إن المسلمين يتسابقون إلى الصف الأول، ويسارعون إلى سد الفرج في الصف لما لذلك من الأجر الكبير، فعَنْ أَبي هُريْرةَ t أَنَّ رسُولَ اللَّهِ r قَال: «لَوْ يعْلمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأَولِ. ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يسْتَهِموا علَيهِ لاسْتهموا علَيْهِ، ولوْ يعْلَمُونَ ما في التَّهْجِير لاسْتبَقوا إَليْهِ، ولَوْ يعْلَمُون ما في العَتَمَةِ والصُّبْحِ لأتوهمُا ولَوْ حبواً» متفقٌ عليه. وقال رسول الله r: “ما من خطوة أعظم أجراً من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدّها” ذكره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (9/145) وذكره المنذري في الترغيب والترهيب[2].

والمرء ينبهر – حقيقةً – عندما يرى جموع المصلين – الذين قد يصل عددهم إلى الملايين كما في الحج والعمرة – وهم يقومون بتسوية صفوفهم عند إقامة الصلاة، ولا يستغرق ذلك منهم إلا دقائق قليلة. وهذا ما حصل لأحد الغربيين عندما سئُل عن مقدار الوقت الذي يستغرقه في تسوية مئات الناس في صفوف مستوية، فأجاب – بناءً على حساباته المادية – بان الأمر يحتاج إلى ساعات، فقيل له لو أن عدد الناس يبلغ المليونين فكم من الوقت يحتاجه لتسوية صفوفهم، فأجاب بأن ذلك يستغرق ايام كثيرة حتى يتم تسويتهم في صفوف مستقيمة، فقيل له إن المسلمين في الحج – وعدد هم يصل إلى أكثر من مليوني مسلم من جنسيات مختلفة وبلغات شتى – يُسوون صفوفهم في بضع دقائق.

هذا المشهد يتكرر في صلاة الجماعة في اليوم خمس مرات، فحري بالمسلم إذاً أن يجعل ذلك منهجه في حياته اليومية خارج المسجد. والإسلام حرص على أن يعي المسلم أهمية وحدة المجتمع المسلم ورصّ الصفوف، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} الصف 4، وبيّن الآثار التي تنجم عن التهاون بوحدة المجتمع فقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال 46، وفي الحديث عن أَبي موسى t قال: قال رسول اللَّه r: «الْمُؤْمنُ للْمُؤْمِن كَالْبُنْيَانِ يَشدُّ بعْضُهُ بَعْضاً» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِه. متفق عليه. فالمسلم دائم الحرص على ما يعزز وحدة المجتمع، حَذِر مما قد يخل بها، فعن النعْمَانِ بنِ بشِيرٍ رضي اللَّه عنهما قال: قال رسولُ اللَّه r: «مثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَداعَى لهُ سائِرُ الْجسدِ بالسهَرِ والْحُمَّى» متفقٌ عليه.

ولا يكفي أن يعي المسلم أهمية هذا الأمر بل يجب عليه أن يكون سداً منيعا ضد من يريد أن يفرق جمع المسلمين، أو يمزق وحدتهم. فعن عرفجة قال: قال رسول الله r: “من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه” صحيح مسلم. فالأمر هنا للمسلمين بأن يقفوا ضد من يريد أن يشق عصاهم أو يفرق جماعتهم. ولا مجال هنا للنظر إلى المصالح الفردية أو الى أي مصالح ضيقة أخرى، كما يفعل الكثير عندما يحصل تنازع على السلطة، فيميلوا إلى جهة دون أخرى بدافع المصالح الضيقة الممقوتة في الإسلام، ولا ينظرون إلى المصلحة العام، ولا إلى الآثار الناجمة عن هذا التنازع. بل إن الأمر خطير، يتوجب تغليب المصلحة العامة على المصالح الأخرى الضيقة، ومنع أي فرقة قد تطرأ والوقف صدّ منيع ضد من يسعى لذلك.

وإدراك المسلم لهذا الأمر يدفعه إلى يحافظ على كيان المجتمع المسلم متماسكاً، لأن هذا هو ما يهدف إليه الإسلام، يقول سيد سابق رحمه الله: “جاء الإسلام ليجمع القلب إلى القلب، ويضم الصف إلى الصف، مستهدفاً إقامة كيان موحد، ومتقياً عوامل الفرقة والضعف، وأسباب الفشل والهزيمة، ليكون لهذا الكيان الموحد القدرة على تحقيق الغايات السامية والمقاصد النبيلة، والاهداف الصالحة التي جاءت بها رسالته العظمى: من عبادة الله، وإعلاء كلمته، وإقامة الحق، وفعل الخير، والجهاد من أجل استقرار المبادئ التي يعيش الناس في ظلها آمنين، فهو لهذا كله يكوّن روابط وصِلات بين أفراد المجتمع، لتخلق هذا الكيان وتدعمه.”[3]

المحافظة على سلامة أفراد المجتمع

جاءت الأحاديث تبين حرص الإسلام على سلامة المصلين في المسجد والابتعاد عن أي شيء قد يتسبب في إيذائهم جسدياً، وأنّ على المسلم أن يعي خطورة وجرم إيذاء المسلمين، فعن أَبي موسى t قال: قال رسول اللَّه r: «مَن مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا، أَوْ أَسْوَاقِنَا، ومَعَه نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ، أَوْ لِيَقْبِضْ عَلَى نِصالِهَا بِكفِّهِ أَنْ يُصِيب أَحَداً مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ» متفق عليه.

ولا يقتصر الأمر على الإيذاء الجسدي، بل على المسلم – أيضاً – أن يحرص على أن لا يؤذي المسلمين في مشاعرهم، أو بإخلال سكينتهم في المسجد، فعن عمرو بن شُعَيْب عن أبيه عن جده t أن رسول الله r قال: «لا يحَلُّ لِرَجُل أن يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنيْنِ إلا بإذْنِهِمَا» رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن. وفي رواية لأبي داود: «لا يَجلِسُ بَيْنَ رَجُليْن إلا بإذْنِهمَا». ورأى عمر بن الخطاب رجلين يرفعان أصواتهم في المسجد، فقال: (لولا أنكما غريبين لأوجعتكما ضرباً، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله!!). نعم نهرهما لأن في ذلك انتهاك لحرمة المسجد، وإيذاء للمصلمين الذين أتوا للمسجد للعبادة.

وأخلاق المسلم خارج المسجد يجب ألا تختلف عن أخلاقة داخله، فقد شدد الإسلام على احترام الآخرين وعدم أذيتهم، ونفى الايمان عمن كان مصدراً للقلق لدى المسلمين، فعن أبي هريرة t أَن النبي r قال: «واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ» قِيلَ: منْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: «الَّذي: لا يأْمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ» متفق عليه. وفي رواية لمسلمٍ: «لا يَدْخُلُ الجنَّة مَنْ لا يأْمنُ جارُهُ بوَائِقهُ». وَعَنْ أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ t قال: أَتى رَجُلٌ رسُول اللَّهِ r فقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضلُ؟ قَال: «مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ ومالِهِ في سبِيلِ اللَّهِ» قال: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ في شِعْبٍ مِنَ الشِّعابِ يعْبُدُ اللَّه، ويَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ». متفقٌ عليهِ. وعن أَبي هريرة t قال: قال رسول اللَّه r: «لا تَحاسدُوا ولا تناجشُوا[4] ولا تَباغَضُوا ولا تَدابرُوا[5] ولا يبِعْ بعْضُكُمْ عَلَى بيْعِ بعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللَّه إِخْواناً. المُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم لا يَظلِمُه ولا يَحْقِرُهُ ولا يَخْذُلُهُ. التَّقْوَى هَاهُنا – ويُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مرَّاتٍ – بِحسْبِ امْرِيءٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِر أَخاهُ المسلم. كُلَّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حرامٌ دمُهُ ومالُهُ وعِرْضُهُ» رواه مسلم. وفي هذا الحديث إرشادات للمسلم إلى تجنب كل ما فيه إيذاء للمسلمين، أياً كان نوع هذا الإيذاء: الحسد، التناجش، التباغض، التدابر، البيع على بيع بعض، الظلم، الاحتقار، الخذلان، انتهاك حرمة الدماء والأموال والأعراض، وغيرها من وسائل الإيذاء المختلفة.

وهكذا ينبغي أن يكون المسلم: حريص على الآخرين، يحب لهم ما يحبه لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه من الشر، فهذا من كمال الإيمان، ففي الحديث عَنْ أَنَس t عن النبيِّ r قال: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفقٌ عليه. فكما أن المسلم يكره لنفسه كل ما فيه إيذاء، ويحب لها السلامة والأمان، فعليه أن يكره الإيذاء _ أياً كان نوعه أو مصدره – لإخوانه المسلمين، ويحب لهم السلامة والأمان.

السماح للمرأة في مشاركة الرجل في بناء المجتمع:

نهى النبي r الرجال عن منع النساء من شهود صلاة الجماعة، يقول الشيخ أبو بكر جابر الجزائري: “وللنساء أن يشهدن صلاة الجماعة في المسجد إن أمنت الفتنة، ولم يخش أذىً، لقوله عليه الصلاة والسلام: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات” رواه البخاري ومسلم وأبو داود. أي غير متطيبات، فإذا مست طيباً فلا يحل لها شهود صلاة الجماعة في المسجد، لقوله r: “أيّما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة” رواه الإمام أحمد، وصلاة المرأة في بيتها أفضل، لقوله r: “وبيوتهن خيرٌ لهن[6]

وبهذا نجد أن النبي r أقرّ من أرادت الخروج لشهود صلاة الجماعة في المسجد، ونهى الرجال عن منعهن من ذلك، واشترط في ذلك أن تؤمن الفتنة، وإلا فصلاتها في بيتها أفضل لها. ففي الحديث عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي r قال: “لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن” رواه أحمد وأبو داود. يقول السيد سابق: “والأفضل لهن الصلاة في بيوتهن، لما رواه أحمد والطبراني عن أم حُمَيد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله r فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. فقال r: “قد علمت، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجد الجماعة“.”[7]

والمرأة جزء من المجتمع المسلم، ولها دور كبير في المجتمع، وينبغي لها أن تعي هذا الدور جيداً، وينبغي للرجل أن يسمح للمرأة بالمساهمة في بناء المجتمع إذا أمن الفتنة، وبما يتناسب ومع خلقتهن. وفي القرآن الكريم قصص لنساءٍ برزن في مجتمعاتهن بأعمال وتصرفات تنبئ عن حكمة ورجحان عقل ووعي لما يجب عليهن، وفهم لدورهن، من هذه القصص قصة بلقيس وهي تستشير قادة جيشها في أمر سليمان، وبين سبحانه رجاحة عقلها في اختبار سليمان عليه السلام، وذلك بإرسالها هدية لتنظر كيف يصنع بها، فإنْ قبِلها فهو ملك، وإن رفضها فهو نبيّ. قال سبحانه: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ{29} إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{30} أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ{31} قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ{32} قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ{33} قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ{34} وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ{35}} النمل.

وقد كانت المرأة في صدر الإسلام تتحلى بقدر كبير من الوعي والفهم لما يجب عليها وما يجب لها، فها هي ذا تأتي النبي r تطالب بحقها في التعلم، فطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وبالعلم تنتصر الأمم، وبالعلم يتمكن المرء من التمييز بين الخير والشر والحق والباطل، وبالعلم تستطيع المرأة أن تربي جيلاً قوياً يُعتمد عليه في الدفاع عن الأوطان والذود عن الاعراض، جاءت هذه المرأة إلى رسول الله r تطلب منه أن يجعل لهن يوما يعلمهن فيه أمور دينهن كما يفعل مع الرجال، فيعطيهن النبي r ذلك. ولذلك كان منهن مربيات، ومعلمات، وراويات للحديث، ومشاركات مع الرجال في أعمال الجهاد.  بل وقد كانت المرأة تتمتع بقدر كبير من السياسة، وكانت تستطيع أن تزن الأمور بميزان الشرع، ولم تكن امعة لا رأي له، كما أُريد لها في مجتمعاتنا هذه الأيام، فقد كان يُؤخذ رأيهن في أمور كثيرة، ففي صلح الحديبية أستشار النبي r أم سلمة عندما لم يستجب له الصحابة – رضوان الله عليهم _ في التحلل من الإحرام والنحر والحلق. كما استشار الخلفاءُ عدداً من النساء في أمور المسلمين.

وكانت المرأة تقف أمام قرارات الحاكم التي لا تنسجم مع الشريعة الإسلامية أو تخالفها، أو التي تجد فيها هضم لحقوقها المكفولة شرعاً، (عن عبد الله بن مصعب، قال: قال عمر بن الخطاب: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي الفضة – يعني يزيد بن الحصين- فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة من صف النساء طويلة في أنفها فطس: ما ذاك لك، قال: ولم؟ قالت: لأن الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}النساء20، فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ.

وفي رواية (أنه قال ذلك على المنبر، ثم نزل فاعترضته المرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين! أنهيت أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم؟ أوما سمعت الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} النساء20، فقال عمر: اللهم غفراً، أكل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: “أيها الناس إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب وطابت به نفسه فليفعل”)[8].

وهذه امرأة من البادية في عهد عمر تدرك أن الإمام إن تولى أمْر الرعية فيجب عليه ألا يغفل عنهم، بل عليه أن يحيطهم برعايته. فحينما رأى عمر بن الخطاب t امرأة ومعها أبناءها يتضاغون من الجوع، وعرف حالهم، إذا بها تخبره – وهي لا تعلم أنه عمر – أن على الخليفة أن لا يغفل على رعيته. (فعن زيد بن أسلم عن أبيه أسلم، قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب t إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بصرار، إذ نار فقال عمر: يا أسلم إني لأرى ها هنا ركباً قد ضربهم الليل والبرد، انطلق بنا. فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا أنا بامرأة معها صبيان صغار، وقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون، فقال: السلام عليكم يا أصحاب الضوء، وكره أن يقول يا أصحاب النار، فقالت: وعليك السلام. فقال: أدنو؟ فقالت: ادنوا بخير أو دع. قال: فدنا. فقال: ما بالكم؟ قالت: قد ضربنا البرد والليل، فقال: وما بال الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: فأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ما أسكتهم به حتى يناموا، والله بيني وبين عمر. قال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟  قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا! قال: فأقبل علَيّ فقال: انطلق بنا، فانطلقنا نهرول حتى أتينا الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق وكبة من شحم، فقال: احمله عليّ، فقلت: أنا أحمله عنك، فقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة لا أُمَّ لك، فحملْتُه عليه، فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً فجعل يقول ذرّي علي وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر ثم أنزلها. فقال: أبغني شيئاً، فأتته بصحفة فأفرغها فيها، ثم جعل يقول لها: أعطيهم وأنا أسطح[9] لهم، فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك وقام وقمت معه. فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، كنت أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين.  فيقول: قولي خيراً، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله. ثم تنحى ناحية عنها ثم استقبلها فربض مربضاً. فقلت: لك شأن غير هذا، فما كلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدؤوا. فقال: يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت ألا أنصرف حتى ما رأيت.)[10]

والمرأة جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، ومن حقها أن تسهم فيه، وأن تشتغل في الأعمال التي تقتضيها حاجة مجتمعها من ناحية أو حاجتها هي من ناحية أخرى. فلها أن تشتغل في تعليم بنات جنسها، وفي تمريض النساء، وغيرها من الأعمال التي تنسجم مع تكوينها الجسماني وقدرتها الجسدية وكرامتها الإنسانية. يقول الدكتور محمد أبو فارس، وهو يتحدث عن الفقه السياسي للإمام البنا: “والإسلام – كما فهمه الإمام البناء رحمه الله – قد سمح للمرأة أن تزاول العمل السياسي وحتى الحربي، فلها أن تحدد موقفها السياسي وتبشر به، وتقنع غيرها به، وقد استنبط هذا من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة الرسول r، فالمرأة بايعت الرسول r بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية، وبايعت الرسول في بيعة الحديبية حينما قرر الرسول r قتال أهل مكة ودخولها عنوة لما أشيع أن سفيره وصهره عثمان بن عفان قد اعتدى عليه المشركون. وأن للمرأة أن تبشر بفكرتها ودعوتها إلى بنات جنسها، وتقوم بتنظيم شؤونهن في الأمور الدعوية، كما أن للمرأة أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر من ارتكب منكراً سواء كان رئيس دولة أو غيره، ولها أن تطالب بحقوقها عن طريق القضاء وفي غير القضاء، وقد أقر الرسول r شكواها وفعلها حينما قالت مستفتية في فتح مكة وأثناء البيعة: إن أبا سفيان رجل شحيح ولا يعطيني ما يكفيني وولدي، وأنا آخذُ من ماله، فهل عليّ من جناح؟ فقال الرسول r: “خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف” رواه الإمام البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجه – الجامع الصغير – متن مختصر شرح الجامع الصغير للمناوي 2/3″[11]. وقد كانت المرأة تشارك الرجال في أعمال الجهاد، يقول علي الطنطاوي وهو يتحدث عن جيش المسلمين في موقعة القادسية: “ها هنا جيش عربي فيه ثلاثون ألف مقاتل، فيهم آلاف مؤلفة من النساء الممرضات المدافعات الديّنات الصيّنات، العفيفات الشريفات، لا المتبرجات ولا المتكشفات، جئن مع أزواجهن أو جئن مع آبائهن، فكان مع فرقة النَخَع وحدها سبعمائة امرأة منهم، ومع بجيلة ألف امرأة… “[12]

ولم يفرض الإسلام العمل على المرأة – كما هو على الرجال- كما أنه لم يحرّم عليها مزاولته إذا دعت الحاجة. يقول الدكتور علي محمد مقبول[13]: “إن الإسلام لم يفرض على المرأة أن تباشر الأعمال مثل الرجال تماماً لتعول نفسها أو تشارك في إعالة أسرتها، وكذلك لم يحرم الإسلام على المرأة أن تباشر بعض الأعمال لتعول نفسها أو أسرتها مطلقاً.”[14]

ثم ذكر الضوابط التي وضعها الإسلام حتى يحفظ للمرأة كرامتها أثناء العمل، فيقول: “وإذا كان لا بد للمرأة أن تعمل فإن هناك ضوابط وضعها الإسلام حتى يحفظ لها كرامتها أثناء العمل، ومن هذه الضوابط ما يلي:

أولاً: أن يأذن لها وليُّها – زوجها أو غير زوجه- بالعمل، وبدون موافقة وليها لا يجوز لها العمل. لأن الرجل قوّام على المرأة، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} النساء34، إلا إذا منعها نكاية بها وظلماً مع حاجتها للعمل، فلا إذن له.

ثانياً: ألا يكون هذا العمل الذي تزاوله المرأة صارفاً لها عن الزوج أو مضيعاً لحقوقه.. أو مضراً بالأسرة بصفة عامة.

ثالثاً: أن يكون العمل الذي تمارسه المرأة مشروعاً، أي سالماً من الاختلاط المستهتر والخلوة بالأجنبي، وذلك لما ينتج عن عدم المشروعية من الآثار السيئة في النفوس والأخلاق، بل أحياناً الأعراض، والشواهد الواقعية مليئة بذلك.

رابعاً: عدم كون العمل الذي تمارسه المرأة مما لا يتفق مع تكوينها الجسماني واستطاعتها الجسدية وكرامتها الإنسانية، ومن ثم لا يجوز للمرأة أن تشتغل بالأعمال الشاقة التي تتطلب جهداً بالغاً متصلاً يثقل كاهلها ويرهق جسمها، ويفقدها أنوثتها أو كرامتها الإنسانية، أو يسبب لها الأمراض والعاهات، كأن تعمل بنّاءة أو حَدّادة أو عاملة منجم أو سائقة قطار، أو أن تعمل كانسة للأوساخ في الشوارع والأزقة، أو حاملة للأمتعة، وذلك لأن هذه الأعمال – كما هو معروف – من اختصاص الرجال، ولا تتناسب مع التكوين الجسدي للمرأة.

خامساً: خلو عمل المرأة من المحرمات كالتبرج، وكل ما من شأنه تحريك النوازع للفتنة في الملبس أو الزينة أو التعطّر. فليس العمل ميداناً لإبراز المفاتن، أو عرض الأزياء، إنما هو مجال خدمة للأمة واجتهاد في البناء كوسيلة لتحصيل الرزق الحلال لمن اضطرتها الظروف إلى ذلك.

والضوابط التي سبق ذكرها هي في الحقيقة والواقع حماية للمرأة، وصيانة لأنوثتها، حتى لا تصبح مادة للتجارة وسلعة للتداول، وهذه الضوابط تهدف لرفع المرأة وتحول دون الحطّ منها أو الهبوط بها إلى مستوى الرق الخبيث، الذي وصلت إليه المرأة الغربية، تحت ستار خادع من الحرية المزيفة أو التحرر البراق.”[15]

والمرأة سيُعرف دورها الحقيقي عندما يُتاح لها الفرصة في بناء وطنها وخدمة دينها ومجتمعها، وعندما تحاط بالرعاية والتربية التي تؤهلها للقيام بواجبها. يقول علي الطنطاوي وهو يتحدث عن نبوغ عائشة رضي الله عنها: “ذلك لأنه أتيح لها ما لم يُتح لأحد، فلقد تولاها في طفولتها شيخ المسلمين وأفضلهم، أبوها الصديق، ورعاها في شبابها خاتم الرسل، وأكرم البشر زوجها رسول الله r، فجمعت من العلم والفضل والبيان ما لم تجمع مثله امرأة أخرى.”[16]

ثم يؤكد أنها امرأة عادية لم تخرج عن أنوثتها، ولا عن كونها امرأة، فقال: “كانت امرأة، كاملة الأنوثة، تؤنس الزوج، وترضي العشير، وكانت عالمة، واسعة العلم، تعلّم العلماء، وتفتي المفتين.”[17]

أما إذا وُجهت المرأة إلى غير وجهتها، وتربت على تحقيق غاية غير التي خلقت من أجلها، واستُخدمت لزعزعت الروابط الأسرية والنسيج الاجتماعي، وسُخّرت لإبراز المفاتن وإثارة الشهوات وإغواء الرجال، وشُجعت على ذلك أو أُلزمت ذلك في كثير من الأحيان – كما يحدث من اشتراط ذلك لنيل بعض الوظائف- فإنه لن يظهر لنا من النساء إلا من وصفهن النبي r: «ونِساء كاسياتٌ عارِياتٌ مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأسْنِمةِ الْبُخْتِ المائِلَةِ لا يَدْخٌلنَ الجنَّةَ، ولا يجِدْنَ رِيحَهَا، وإنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مسِيرَةِ كذَا وكَذَا» رواه مسلم. وهذا الصنف من النساء هو الذي خشيه النبي r على الرجال، فعن أُسامَةَ بنِ زيد رضي اللَّه عنهما عن النبي r قال: «ما تركْتُ بعْدِي فِتْنَةً هِي أَضَرُّ عَلَى الرِّجالِ: مِنَ النِّسَاءِ» متفقٌ عليه.


[1] ) د. علي أحمد القليصي. فقه العبادات ( الجزء الأول ) صـ241.

[2] ) انظر منهاج المسلم للجزائري صـ184.

[3]) السيد سابق. فقه السنة (المجلد الثالث) صـ6.

[4] ( «النَّجَش» أَنْ يزِيدَ فِي ثَمنِ سلْعةٍ يُنَادِي عَلَيْهَا فِي السُّوقِ ونحْوهِ، ولا رَغْبةَ لَه فِي شِرائهَا بَلْ يقْصِد أَنْ يَغُرَّ غَيْرهُ، وهَذا حرامٌ. )رياض الصالحين(

[5] ( «والتَّدابُرُ»: أَنْ يُعرِض عنِ الإِنْسانِ ويهْجُرَهُ ويجعلَهُ كَالشَّيءِ الذي وراءَ الظهْر والدُّبُرِ. )رياض الصالحين(

[6] ) الشيخ أبو بكر جابر الجزائري – منهاج المسلم – صـ180.

[7] ) السيد سابق. فقه السنة (المجلد الأول) صـ203.

[8] ) الإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي – تاريخ عمر بن الخطاب – صـ 172.

[9] ) أسطح: أبسطه حتى يبرد.

[10] ) الإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي – تاريخ عمر بن الخطاب – صـ ـ86.

[11] ) محمد عبد القادر أبو فارس – الفقه السياسي عند الإمام الشهيد حسن البنا – صـ59.

[12] ( المصدر السابق صـ40.

[13] ) عضو هيئة التدريس بجامعة صنعاء.

[14] ) في مقال له بعنوان (عمل المرأة في الميزان) – مجلة المنتدى (مجلة شهرية جامعة) – العدد (114) شعبان 1429هـ – أغسطس 2008م.

[15] ) د. علي محمد مقبول من مقال له بعنوان (عمل المرأة في الميزان) – مجلة المنتدى (مجلة شهرية جامعة) – العدد (114) شعبان 1429هـ – أعسطس 2008م.

[16] ( علي الطنطاوي – رجال من التاريخ صـ22.

[17] ( المصدر السابق صـ22.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى