قراءة كتاب

المبحث الثالث: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بالفرد المسلم كعضو في جماعة المسلمين (2)

المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني

ثانياً: تحمل مسؤولية إصلاح المجتمع

في صلاة الجماعة يتحمل الفرد مسؤوليته في إقامة واستقامة وصحة صلاة الجماعة. فلولا التزام الفرد بواجبات وسنن وآداب صلاة الجماعة ما استقامت الصلاة، ولا انضبطت ذاك الانضباط. فمسؤولية الفرد هي التي تدفعه لأن ينْضَمّ إلى صفوف المصلين، ويسدّ الفرج، ويستوي في الصف بدون عوج. واستشعاره بالمسؤولية هو الذي يجعله مدركاً ضرورة متابعة الإمام في حركات الصلاة، وأهمية الفتح على الإمام إن التُبس عليه أثناء قراءته للقرآن في الصلاة، وغير ذلك من الأعمال.

واستشعار المسؤولية الفردية لدى المسلم تظل معه في حياته اليومية، فعلى الرغم من أن توجيهات الشارع الكريم جاءت للمؤمنين بصيغة الجمع، إلا أن الإسلام ينبه المسلم إلى أن المساءلة يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى ستكون فردية، وسيقف المرء للمحاسبة بمفرده بين يدي خالقه سبحانه، قال تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} مريم80. وقال أيضاً: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} مريم95. وبما أن الفرد سيحاسب يوم القيامة فرداً لا علاقة له بأعمال الآخرين كما قال الله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} الطور21، فإنه ينبغي عليه أن يتحمل المسؤولية الفردية في الدنيا، ولا ينظر إلى الآخرين، أو أن يربط التزامه بمسؤولياته بالتزام الآخرين بمسؤولياتهم، ففي الحديث: “لا يكن أحدكم إمّعة. يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت!! ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم” رواه الترمذي، فكل فرد – رجل أو امرأة، سيدٌ أو عبد، رئيس أو مرؤوس – لديه مسؤولية في هذه الدنيا، وهو مسؤول عنها يوم القيامة، ففي الحديث عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: سمِعتُ رسولَ اللَّه r يقول: «كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عنْ رعِيتِهِ: الإمامُ راعٍ ومَسْؤُولٌ عَنْ رعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ رَاعٍ في أهلِهِ وَمسؤولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرأَةُ راعيةٌ في بيتِ زَوجها وَمسؤولةًّ عَنْ رعِيَّتِها، والخَادِمُ رَاعٍ في مال سَيِّدِهِ وَمَسؤُولٌ عَنْ رَعِيتِهِ، وكُلُّكُم راع ومسؤُولٌ عَنْ رعِيَّتِهِ» متفقٌ عليه.

والفرد – وهو عضو في المجتمع المسلم – عليه أن يتحمل المسؤولية في حماية مجتمعه وإصلاحه. فهذه مسؤولية الجميع، ولا يقتصر هذا العمل على فئة من الناس دون أخرى. بل إن الفرد يشارك الآخرين في تحمل مسؤولية إصلاح مجتمعه، وإزالة الفساد منه – كلٌ حسب استطاعته، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} التوبة71. يقول الدكتور عبدالكريم زيدان وهو يتحدث عن خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام: “ومن خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام تحمل الفرد مسئولية إصلاح المجتمع، بمعنى أن كل فرد فيه مطالب بالعمل على إصلاح المجتمع وإزالة الفساد منه على قدر طاقته ووسعه، والتعاون مع غيره لتحقيق هذا المطلوب.”[1]

والمسؤولية الفردية تتضح أكثر عندما نسمع رسول الله r  يخاطب المسلم بقوله: «مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكراً فَلْيغيِّرْهُ بِيَدهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطعْ فبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلبهِ وَذَلَكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ» رواه مسلم. “فهذا الحديث الشريف صريح في تحمل الفرد مسئولية إزالة الفساد المطلوب من المسلم إزالته. وهذا الحديث يأمر أيضاً بأن يكون المسلم في حالة استعداد وتهيؤ للإصلاح وإزالة الفساد”[2] فقوله r “ مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكراً فَلْيغيِّرْهُ ” يدل على أن تغيير المنكر مسئولية جميع أفراد المجتمع، وان هذه المسئولية ليست مقتصرة على فئة من الناس دون أخرى، أو محدودة بزمان أو مكان، بل تقع المسئولية في التغيير على الفرد حالما يرى منكراً بين المسلمين. ويدل على ذلك  – أيضاً – اشتمال الحديث على كل أنواع الوسائل الممكنة في تغيير المنكر  والتي لا يخلوا المسلم أن يكون قادراً على تغيير المنكر بإحدى هذه الطرق الثلاث، بدأً بالتغيير باليد، مروراً بالتغيير باللسان، وانتهاءً بالتغيير بالقلب.

“والتغيير بالقلب يعني كراهية المنكر، يقول الإمام النووي: “فبقلبه معناه فليكرهه بقلبه وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر ولكنه هو الذي في وسعه”، فالتغيير بالقلب يعني كراهية المنكر وهو وإن لم يكن إزالة وتغييراً كما يقول الإمام النووي إلا أنه مقدمة للتغيير وتهيؤ له وإعداد النفس لتغييره فعلاً، لأن الإنسان عادة لا يزيل شيئاً يحبه، وإنما يزيل ويغيّر شيئاً يكرهه، فكراهية الشيء مقدمة لإزالته وسابقة لتغييره، فجاز إطلاق اسم التغيير على كراهية القلب للمنكر بهذا الاعتبار.”[3]، والتغيير بالقلب بهذا المفهوم يتطلب عدم مجاراة أهل المنكر في منكرهم، يقول تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (النساء: 140)، هذا ما يجب من عجز عن التغيير بيده أو بلسانه ألا يجاري أهل الباطل في باطلهم، ولا يكثر من سوادهم، فضلا عن أن يؤيدهم في ذلك، يقول الشيخ الشعرواي في احد محاضراته: “إذا لم تستطع أن تغير الباطل فلا تصفق له”.

والاستشعار بالمسؤولية يدفع الفرد إلى القيام بالمساهمة الفعالة في إصلاح المجتمع والتصدي للمنكرات وأهلها، وبهذا يكثر أهل الصلاح والإصلاح فيصلح المجتمع وينجوا، ويقل أهل الفساد والافساد فيضمحل الفساد ويخبوا، قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} هود116.  يقول سيد قطب – رحمه الله: “وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم. فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله، في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمة ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير. فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها، إما بهلاك الاستئصال. وإما بهلاك الانحلال.. والاختلال!”[4] وفي الحديث عن ابن مَسْعُودٍ t قال: قال رسول اللَّه r: «وَاللَّه لَتَأْمُرُنَّ بالْمعْرُوفِ، وَلَتَنْهوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ولَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، ولَتَأْطِرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْراً، ولَتقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْراً، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن. يقول الدكتور عبدالكريم زيدان: “وهذا الحديث صريح في الدلالة على تحميل الفرد مسؤولية إصلاح المجتمع ورفع الفساد عنه، وفيه تأكيد على منع الظالم من الظلم، لأن الظلم من أعظم الفساد في الأرض.”[5]

وإذا كان استشعار المسؤولية يعني قيام الفرد بواجبه في مكافحة الفساد والمفسدين، والظلم والظالمين، فإنه من باب أولى يعني أن لا يقوم الفرد بالإفساد في الأرض أو أن يقف مع المفسدين، ظهيراً لهم، يقول تعالى: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} البقرة60، ويقول: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} الأعراف85، ويقول سبحانه أيضاً: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} القصص17. يقول الدكتور عبدالكريم زيدان: “وإذا كان الفرد مطالب بإصلاح المجتمع، فمن البديهي أنه مطالب بعدم إفساده، قال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} الأعراف85.”[6]. وعلى هذا فعلى الفرد ألا يفسد في الأرض أو أن يسلك طريق المفسدين لأنه يؤدي إلى الفساد في الأرض، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} الأعراف142.


[1] ( د. عبدالكريم زيدان – أصول الدعوة صـ132.

[2] ) المصدر السابق – صـ133.

[3] ( المصدر السابق صـ133.

[4] ( سيد قطب – في ظلال القرآن – تفسير سورة هود آية 116.

[5] ( د. عبدالكريم زيدان – أصول الدعوة صـ134.

[6] ( المصدر السابق صـ132.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى