قراءة كتاب

المجتمع المثالي الذي ننشده – المقدمة

إيحاءات من صلاة الجماعة - عبدالقادر شرف الدين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:

يحلم المسلم الحر بمجتمع مثالي خالٍ من الظلم والافساد، ويتمتع أفراده بقدر كافٍ من الحرية، ويعيشون في عزة وكرامه، ويلمسون فيه الأمن والأمان. هذه الأحلام قد تبدوا لكثير من المسلمين بعيدة المنال، صعبة التحقق، في الوقت الذي يرى فيه المسلم أغلب المجتمعات المسلمة تقبع في تشتت وتمزق وضعف، واستكانة للظالم المتجبر، ويتسلل إلى قلبه شيء من اليأس من تحقق هذا الحلم حينما يرى الظالمين يعيثون في هذه الأوطان الفساد، ويسومون أهلها سوء العذاب. أصابت هذه الصورة المتدهورة للمجتمعات المسلمة كثير من أفراد هذه المجتمعات بحالة الشعور بالعجز، وتربعت على قلوب البعض الأخر حالة الاستسلام والرضوخ للظلم، ودفعت الكثيرين منهم إلى انتهاج ثقافة التأقلم مع الفساد والتكيف معه.

إن هذه الحالة التي وصل إليها المسلمون هي ما يريده الأعداء، أن يعيش المسلمون عيش القطيع من الأغنام، لا يكترثون لشيء إلى ما كان متعلقاً بإشباع بطونهم وتلبية غرائزهم البهيمية. ولكي يخرج المسلمون من هذه الحالة فهم بحاجة إلى الوقوف بحزم ضد هذه الثقافة، ثقافة الترويض التي ينتهجها الظالمون لإخضاع الشعوب، وابقائهم في حالة السلبية والاتكالية. إنهم بحاجة إلى ثقافة سليمة – على فهم السلف – ليحصّنوا بها مجتمعهم، وليحبطوا بها مخططات أعدائهم، وليتخلصوا بها مما بقي من رواسب العلمانية وآثارها المقيتة على الفرد المسلم خصوصاً وعلى المجتمعات المسلمة عموماً، وليتخلصوا – أيضاً – من الآثار السلبية التي ظهرت نتيجة تولي أئمة الجور والظلم والفسوق دفة الحكم في البلاد الإسلامية في العهدين العاضّ والجبري[1]، لا سيّما وقد ظهرت جماعات إسلامية تتحدث باسم الإسلام، تدعوا – ضمنا أو علناً– إلى فصل الدين عن الدولة، والسياسة عن الإسلام، وتقويض دور الفرد في بناء المجتمع، وتركز اهتمامها على الجوانب العبادية والأخلاقية، وتعرض عن الجوانب الأخرى. وأخرى تصفق للحاكم الظالم، وتسبح بحمده، وتقره فيما فعل ويفعل، بل وتضفي على أفعالة الصبغة الإسلامية. أسهم ذلك كله في إضعاف المجتمعات المسلمة وتشتتها، نتيجة لاتساع الهوة بين المسلمين وحكامهم، وإبعاد المسلم عن واجبه في القيام بالأمر بالمعلوف والنهي عن المنكر في شتى مجالات الحياة ولا سيما السياسية منها، حتى صار التحدث عن الشأن السياسي– عند الكثيرين – ضرباً من المجازفة التي لا يقبلها عقل ولا دين، بل وأصبح عند العامة نوعاً من الخوض فيما لا يعني والذي –في اعتقادهم – نهى الشرع عنه.

وحتى تكتمل الحلقة، ويُطوَّق المسلمون من جميع الجهات، ويحصرونهم في زاوية ضيقة، ويقصرونهم على الجوانب العبادية فقط، صوّب الأعداء أسلحتهم نحو من يعتنق الاسلام ديناً ودولة، ويعتقده منهجاً للحياة، وأسموه بـ (الإسلام السياسي) ليوهموا المسلمين أنه دين آخر لا يرتبط بدين الإسلام بشيء.

نشاهد هذا كله أمام أعيننا فنرى انتقاض عرى الإسلام عروة عروة، كما ذكر ذلك النبي r: “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولاهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة” رواه ابن حبان من حديث أبي أمامة.

ولو تأملنا قليلاً في هذا الحديث لوجدنا أن النبي يتحدث عن تخلي المسلمين في آخر الزمان عن الإسلام تدريجياً، الإسلام الذي جاء لينتشل هذه الأمة من الوحل التي وقعت فيه، ويرفعها من الانحطاط التي كانت عليه، ويبنيها من جديد وفقاً لقواعد وأسس محكمة لا يزيغ عنها إلا هالك، هذا الإسلام سيُنقض عروة عروة، نتيجة لأسباب عدة ذكرنا بعضاً منها في سطر هذه المقدمة، ولقد تأملت في ترابط عرى الإسلام في هذا الحديث وتساءلت عن العلاقة بين أولى هذه العرى وآخرهن، وهل من علاقة بين الحكم والصلاة وخاصة صلاة الجماعة؟ وهل يمكن أن يستلهم المسلم من وحي صلاة الجماعة ما ينظم حياة بأكملها بدأً بعباداته ومروراً بتعاملاته مع إخوانه ومجتمعه، وانتهاءً بعلاقته مع الحاكم الذي ولاه الله عليه؟

فنظرت إلى صلاة الجماعة وأطلت التأمل فيها، ثم انطلقت في قراءة الأحكام المتعلقة بالدولة المسلمة وبالمجتمع المسلم، وتلك المنظِّمة لعلاقة الحاكم برعيته، والرعية بحاكمها، وقارنتها بالأحكام المتعلقة بالمسجد وبصلاة الجماعة والمتعلقة بالإمام والمأمومين في صلاة الجماعة، فوجدت أن هناك تشابهاً كبيراً في كثير من الأحكام. ويمكن للمسلم البسيط – الذي لا يملك ثقافة كبيرة ولا قدراً واسعاً من العلم – أن يستمد منها حقوقه وواجباته تجاه وطنه ومجتمعه. وكذلك سيجد فيها الحاكم المسلم تذكيراً يومياً بحقوقه وواجباته نحو وطنه ورعيته.

وهكذا تبلورت هذه الأفكار، ورجوت أن تعم فائدتها على المسلمين بأن تصير في متناول كل مسلم، فبدأت في كتابة هذا الكتاب وجمعت العلاقات التي تحكم المسلمين في صلاة الجماعة وتلك التي ينبغي أن تحكمهم في المجتمع المسلم، وقارنت بين هذه العلاقات. ولم أشأ أن اتطرق إلى الخلافات بين الفقهاء في القضايا الفقهية، ولا إلى الخلافات الناشئة بين الجماعات فيما يتعلق بالجوانب الأخرى السياسية وغيرها، وقد اعتمدت في كتابي هذا على مراجع لعلماء من مختلف الجماعات -حرصاً مني على ترسيخ مفهوم وحدة الأمة الاسلامية والتي لا بد أن تظهر أولاً في علماءها وإن اختلفت آرائهم واجتهاداتهم، والتأكيد على أن لكل عالم أو جماعة دور وواجب نحو دين الله -ومناقشة هذه الاختلافات والاجتهادات ليس مجال حديثنا هنا، ولا يعنينا في هذا الكتاب- ولكن تحدثت عن الإيحاءات لبناء مجتمع مثالي يمكن أن تُستوحى صفاته وملامحه من بعض حركات صلاة الجماعة وبعض الأحكام المتعلقة بها، ولهذا أسميت كتابي هذا بـ”المجتمع المثالي الذي ننشده – إيحاءات[2] من صلاة الجماعة“.

وكثيراً ما تحدثتُ في هذا الكتاب عن جماعة المسلمين والمجتمع المسلم. وأقصد به ذاك المجتمع الذي عناه رسول الله r وبيّن ملامحه وصفاته. يقول الدكتور إدريس محمد علي[3] – رحمه الله- وهو يعرّف المجتمع: “عرفه رسول الله r تعريفاً دقيقاً يميزه من سائر المجتمعات الأخرى بقوله: «مثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ،  إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَداعَى لهُ سائِرُ الْجسدِ بالسهَرِ والْحُمَّى» متفقٌ عليه من حديث النُّعْمَانِ بنِ بشِيرٍ رضي اللَّه عنهما، وفي لفظ لمسلم: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»[4]. وهذا المجتمع – الذي أعنيه في كتابي هذا – هو المجتمع الصالح “القائم على معاني الإسلام وأفكاره ومناهجه والتي تُطبق فيه أحكامه.”[5]

وقد حرصت في هذا الكتاب – إضافةً إلى التذكير بأحكام صلاة الجماعة – على أن يتفقه المسلم بعضاً من فقه السياسة الشرعية، فهذا جزء أساسي من الفقه الإسلامي الشامل، وإن كان يطلق عليه بالفقه السياسي فهو لا يخرج عن الفقه الإسلامي الذي يجب على المسلم أن يفقهه، ولا يقل أهمية عن فقه الصلاة والصوم، لما له من مكانة في الشريعة الإسلامية.

إن هذا الكتاب عبارة عن نظرة عميقة في صلاة الجماعة وربط أحكامها بالأحكام المتعلقة بالدولة المسلمة والمجتمع المسلم وبتلك المنظِّمة لعلاقة الحاكم برعيته، والرعية بحاكمها، وهو مقارنة بين الأحكام المتعلقة بالمسجد وبصلاة الجماعة وبالإمام والمأمومين، وتلك الاحكام المرتبطة بالحياة اليومية في المجتمع المسلم، وإظهار التشابه الكبير في كثير من هذه الأحكام.

في هذا الكتاب دفعة قوية للمسلم ليستمد من صلاة الجماعة واجباته تجاه وطنه ومجتمعه ونحو حاكمه، ويعرف حقوقه من هذا الحاكم. وكذلك هو للحاكم المسلم، بأن يجعل من صلاة الجماعة تذكير يومي بحقوقه وواجباته نحو وطنه ورعيته. فينطلق الجميع – الحاكم والمحكوم، الراعي والرعية – وفق هذه الرؤية التي يستمدها الجميع من ممارستهم لصلاة الجماعة في اليوم خمس مرات – إلى تأسيس علاقة صحيحة وسليمة بينهم، فيتأسس بذلك المجتمع المنشود الذي أراده الله سبحانه وتعالى.

وحقيقةً لقد ترددت في مواصلة الكتابة في هذا الموضوع، وحدثتني نفسي بأني لست أهلاً لهذا العمل، فأنا أعلم أن لهذا الباب رجاله. وقد توقفت – فعلاً – عن إتمامه لفترة من الزمن، حتى جاءت الثورات العربية – بما فيها ثورة اليمن المباركة – في فترة ما يسمى بالربيع العربي، والتي خالطها تباين في وجهات النظر واختلاف في المفاهيم، وشطحات في الآراء، وانحراف في فهم بعض النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وتوظيفها لصالح الظالم المفسد، أو لتبرير التقاعس والخذلان، فكان ذلك دافعاً لي إلى مواصلة الكتابة في هذا الكتاب وإتمامه، وسألت الله التوفيق في ذلك، وأردت بذلك أن أسهم في هذا الباب بجهد المقِلّ. وجُلّ ما قمتُ به هو نقول عن علماء أفاضل وأساتذة كتبوا في مجالات متعلقة بهذا البحث. فكان هذا الجهد المتواضع الذي بين يدي القارئ الكريم، والذي أرجوا من الله أن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يغفر لي تقصيري وزلاتي فيه.

ولا بد لي – هنا – من تقديم الشكر الجزيل لكل من أعانني على إتمام هذا الكتاب، أو قام بمراجعته، أو ساهم في طباعته وإخراجه للنور – من باب (من لا يشكر الناس لا يشكر الله) – وفي مقدمتهم والدي الفاضل حفظه الله، وأخٍ لي في الله – فضّل عدم ذكر اسمه تواضعاً منه – فجزاهم الله خيراً وكتب أجورهم.

ولقد قمت بتقسيم الكتاب إلى فصلين:

تمهيد

الفصل الأول: العبادات وبناء المجتمع.

الفصل الثاني: إيحاءات صلاة الجماعة لبناء مجتمع مثالي. وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: تناولت فيه إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بجماعة المسلمين.

المبحث الثاني: تناولت فيه إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بإمام المسلمين.

المبحث الثالث: تناولت فيه إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بالفرد المسلم.

المبحث الرابع: تناولت فيه إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بوطن المسلمين.

عبدالقادر محمد شرف الدين

رمضان 1444هــ

اليمن –  المحويت

a4feedback@gmail.com


[1] ( ذكرهما النبي r في الحديث الذي رواه الحافظ العراقي من طريق أحمد عن حذيفة.

[2] ( الإيحاءات مفردها إيحاء. والإيحاء: هو إلقاء المعنى في النفس بخفاءٍ وسرعة. )انظر: كتاب التعريفات للشريف الجرجاني(.

[3] ( عمل مدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة، ثم مدرساً بجامعة صنعاء – كلية التربية – المحويت – توفي عام 1435هـ.

[4] ( د. إدريس بن محمد بن علي بن يوسف السلولي – تحذير المجتمع المسلم السليم من شر النمام المغتاب الأثيم صـ7.

[5] ( د. عبدالكريم زيدان – أصول الدعوة صـ138.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى