المبحث الرابع: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بوطن المسلمين (3)
المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني
خامساً: أبناء الوطن وعُمّاره
رغم بساطة بناء المسجد إلا أنه المكان الذي تربى فيه الصحابة الكرام، وتخرج منه قادة هذه الأمة، وانطلقت منه جيوش الرحمن لتأديب المتجبرين والمتكبرين. يقول محمد الغزالي: “هذا البناء المتواضع الساذج، هو الذي ربَّى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة وملوك الدار الآخرة. في هذا المسجد أذن الرحمن لنبيٍّ يؤم بالقرآن خيرة من آمن به، أن يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل.”[1]
وعمارة المساجد من الأعمال الخيرة في الإسلام. وهي لا تقتصر على الحجارة فقط، بل إن إقامة الشعائر التعبدية فيه من عمارته، ولهذا فإن عُمّار المساجد هم من يكثرون ارتيادها للتعبد فيها. عن أَبي سعيدٍ الخدْرِيِّ t عنِ النبيِّ r قال: «إِذا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسَاجِد فاشْهدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ» ويقول اللَّه عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَن بِاللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ} التوبة 18. رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وعمّار المساجد هم من تعلقت قلوبهم بها، فأكثروا الخطى إليها، وأطالوا المكوث فيها، فوجدوا فيها الرحمة وتنزلت عليهم فيها السكينة، وحازوا ثواب ربهم في الآخرة. عن أَبي هريرة t، عن النبيِّ r قال: «ما اجْتَمَعَ قوْمٌ فِي بيْتٍ منْ بُيُوتِ اللَّه تعالَى، يتْلُون كِتَابَ اللَّه، ويَتَدارسُونهُ بيْنَهُمْ إلاَّ نَزَلَتْ عليهم السَّكِينةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمةُ، وحفَّتْهُمُ الملائكَةُ، وذكَرهُمُ اللَّه فيمَنْ عنده.» رواه مسلم.وعن أَبي هريرةَ t أَنَّ النبيَّ r قال: «مَنْ غَدا إِلى المسْجِدِ أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللَّه لهُ في الجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» متفق عليه. وعن أبي هريرةَ t أَنَّ رسول اللَّهِ r قالَ: «أَلا أَدُلُّكُمْ عَلى مَا يمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلى يا رسولَ اللَّهِ. قَالَ: «إِسْباغُ الْوُضُوءِ عَلى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطَا إِلى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بعْد الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلكُمُ الرِّباطُ» رواه مسلم.
وعمّار المساجد هم من يقيمون الصلاة في بيوت الله، ويحرصون على أداءها حيث ينادى بهن، عن ابنِ مسعودٍ t قال: مَنْ سَرَّه أَن يَلْقَي اللَّه تعالى غدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلى هَؤُلاءِ الصَّلَوات حَيْثُ يُنادَي بهنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكم r سُنَنَ الهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِن سُنَنِ الهُدى، وَلَو أَنَّكُمْ صلَّيْتم في بُيوتِكم كما يُصَلِّي هذا المُتَخَلِّف في بَيتِهِ لَتَركتم سُنَّة نَبِيِّكم، ولَو تَركتم سُنَّةَ نَبِيِّكم لَضَلَلْتُم، ولَقَد رَأَيْتُنَا وما يَتَخَلَّف عَنها إِلاَّ منافق مَعْلُومُ النِّفَاق، وَلَقَدَ كانَ الرَّجُل يُؤتىَ بِهِ، يُهَادَي بيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ في الصَّفِّ. رواه مسلم. وفي روايةٍ له قال: إِنَّ رسولَ اللَّهِ r عَلَّمَنَا سُنَنَ الهُدَى، وَإِنَّ مِن سُننِ الهُدَى الصَّلاَة في المسَجدِ الذي يُؤَذَّنُ فيه.
وعُمّار المسجد هم من نهَتهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، فابتعدوا عنها، وتركوا ما يغضب الله تعالى داخل المسجد وخارجه. قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} العنكبوت45.
هؤلاء هم عُمّار المساجد، لأنه لا يعمر مساجد الله إلا من آمن بالله حق الإيمان. أما غيرهم فإنه لا يوجد ما يدفعهم إلى عمارة المساجد والمحافظ عليها، يقول تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ # إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} التوبة 17-18. فعمارة المساجد وحفظها ليس من شأن المشركين ولا من سار على نهجهم، بل هي مهمة المؤمنين المهتدين بهدى الله سبحانه وتعالى.
وبناة الأوطان هو أبناؤه الحقيقيون الصادقون في انتمائهم لهذا الوطن، وهم من تربطهم بوطنهم روابط انتماء حقيقية صادقة لا روابط مصالح ومنافع، فهم بهذا الانتماء يحرصون على بنائه وعمارته، ويسعون في رقيه وازدهاره وتقدمه، ويتعاونون في ذلك، ويحافظون على مكتسباته وثرواته ويدافعون عنها، ويقفون صفاً واحداً ضد الفساد والمفسدين. يمتثلون قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} المائدة2.
وبُناة الأوطان هم من يسهمون بفاعلية في كل ما من شأنه خدمة الوطن ورفعتُه بالقول والعمل، ويبذلون الغالي والنفيس من أجل رفعته وسموه وتطوره، ويقدمون مصلحة أوطانهم على مصالحهم الشخصية.
وعُمّار الأوطان هم من يحرصون على العلم – طلباً وتشجيعاً – فبالعلم ترقى الأمم، وبالعلم تزدهر الأوطان، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} المجادلة11، وقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} الزمر9، وعَنْ أبي أُمَامة t أنَّ رَسُول اللَّه r قال: «فضْلُ الْعالِم على الْعابِدِ كَفَضْلي على أَدْنَاكُمْ» ثُمَّ قال: رسُولُ اللَّهِ r: «إنَّ اللَّه وملائِكَتَهُ وأَهْلَ السَّمواتِ والأرضِ حتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وحتى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلى مُعلِّمِي النَّاسِ الخَيْرْ» رواهُ الترمذي وقالَ: حَديثٌ حَسنٌ.
وبناء الأوطان وعمارتها لا تكون من أولئك الذين لا يتقنون في أعمالهم ولا يخلصون فيها، أو يرتشون لإنجاز ما هو واجب عليهم. وهي كذلك لا تكون ممن لا يرعون الأمانة الملقاة على عواتقهم، ولا يراعون حقوق الآخرين من أبناء وطنهم. وعمارة الأوطان لا تكون ممن يرى الوظيفة العامة مغنماً لا مغرماً، وتشريفاً لا تكليفاً، فيطلق لنفسه العنان، فينهب ويسرق ويحتال. عن أَبِي حُميْد عبْدِ الرَّحْمن بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ t قال: اسْتعْملَ النَّبِيُّ r رَجُلاً مِن الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْـنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قـال: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهدِيَ إِلَيَّ، فَقَامَ رسولُ اللَّه r على الْمِنبرِ، فَحمِدَ اللَّه وأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قال: «أَمَّا بعْدُ فَإِنِّي أَسْتعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ على الْعمَلِ مِمَّا ولاَّنِي اللَّه، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَت إِلَيَّ، أَفَلا جلس في بيتِ أَبيهِ أَوْ أُمِّهِ حتَّى تأْتِيَهُ إِنْ كَانَ صادقاً، واللَّه لا يأْخُذُ أَحدٌ مِنْكُمْ شَيْئاً بِغَيْرِ حقِّهِ إلاَّ لَقِيَ اللَّه تَعالَى، يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَلا أَعْرفَنَّ أَحداً مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّه يَحْمِلُ بعِيراً لَهُ رغَاءٌ، أَوْ بَقرة لَهَا خُوارٌ، أَوْ شاةً تيْعَرُ» ثُمَّ رفَعَ يَديْهِ حتَّى رُؤِيَ بَياضُ إبْطيْهِ فقال: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» ثلاثاً، متفقٌ عليه. وقال:«أَعْظَمُ الْغُلُول عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذِرَاعُ أَرْضٍ يَسْرِقُهُ رَجُلٌ فَيُطَوَّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» رَوَاه ابن أبي شيبة بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وكذا أحمد والطبراني مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِك الْأَشْعَرِيِّ.
ولا ينتظر المسلم من غير المسلمين أن يبنوا له وطنه، وأن يعمروه. إذ لن يرقى وطن عُمّاره من غير أبناءه، ولن يتقدم هذا الوطن ما دام أبناءه لا يقومون بهذه المهمة. وكما قال الشاعر:
لا يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا لم يكن عُمّاره من أبنائه
كذلك لا يتوقع أن يقوم غير المخلصين من أبناء الوطن ببناء وطنهم، أو أن يتقدم المفسدون في الأرض – من أبناء الوطن – ليحملوا هذا العبء الكبير ويقوموا ببناء وعمارة وطنهم وصيانته، فالله لا يُصلح عمل المفسدين، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} يونس81.
سادساً: مدرسة الوطن
المسجد مدرسة يتعلم فيه المسلمون أمور دينهم ودنياهم، فقد كان المسجد يقوم بوظيفته التعليمية – بالإضافة إلى وظيفته العبادية – خير قيام، وقد كانت حلقات العلم تملأ المساجد، وكان طلاب العلم يأتون إليها من كل مكان. يقول الدكتور عبد الله قاسم الوشلي: “ولقد ظلت وظيفة المسجد هي العبادة والتعليم والمدارسة ومقر القيادة والرياسة طوال مدة رسول الله r في المدينة المنورة وحتى لحق بالرفيق الأعلى، وكذلك استمرت في خلافة الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – واتسع جانب التعليم في المسجد بعد الخلفاء الراشدين، ولم يقتصر به على ما كان عليه في عهد الرسول r وخلفائه، وإنما اتسعت دائرة العلوم التي تدرس في المسجد حتى شملت كل المعارف الإنسانية. يقول السيوطي – رحمه الله: إن دروساً مختلفة رتبت في الجامع الطولوني، وقد شملت التفسير والحديث والفقه على المذاهب الأربعة، والقراءات، والطب، والميقات. وأخيراً يقول أن المسجد موضع لأمر جماعة المسلمين، وكل ما كان من الأعمال التي تجمع منفعة الدين وأهله.”[2].
وهكذا لم يكن المسجد مكان للعبادة فقط، بل كان منارة للعلم، يستقي منه الدارسون أصنافاً من العلوم النافعة. بل إن المساجد “كانت في الحقيقة جامعات ذات مناهج محددة تتسم بالحرية العلمية والتنوع فيما يدرس من علوم دينية ودنيوية.”[3]
فتَخَرّج من مدرسة المسجد العالم الفقيه الرباني الذي يبتغي بعلمه وجه الله، والقاضي العادل المطبق لشرع الله المتحرر من قيود السلاطين والحكام، الذي لا يخاف في الحق لومة لائم. وتخرج من مدرسة المسجد أيضاً الطبيب المسلم الذي يرى في مداواته لمرضاه وإعطائهم العلاج عبادة يتقرب بها إلى الله. وتخرج من المسجد القائد والجندي ورجل الأعمال وغيرهم من أصحاب التخصصات التي تخدم المجتمع المسلم.
“وقد نجحت المساجد في تكوين وإعداد ذلك المجتمع بما لم يصل إليه في عصرنا هذا أرقى الجامعات ودور التربية المعاصرة. وقد أوجدت جيلاً لا يزال معجزة العالم ومفخرتها متخصصا في كل العلوم الشرعية والكونية والإنسانية، والتي لا تزال جامعات العالم تعتبر ما خلفه هذا الجيل من ثروة علمية في مختلف ميادين الحياة مراجع أساسية لعلومهم وأبحاثهم ومخترعاتهم. وهذا ما شهد به الأعداء والأتباع على السواء.”[4]
ثم انطلق هؤلاء كلهم من المسجد وعادوا إلى المسجد ليجعلوه منطلقاً لهم لخدمة دينهم ومجتمعهم، فكان المسجد داراً للقضاء، وساحة للتدريب، ومكاناً لمعالجة المرضى وإعطائهم الدواء، يقول الدكتور الوشلي: “ولم يقتصر المسجد في أول الإسلام على كونه مقراً للعبادة ومكاناً للتعلم، بل استخدمه المسلمون الأُول مقراً للقضاء. لا لأن الدولة كانت عاجزة عن إنشاء دور للقضاء، بل لأن القضاء وأهل الورع أرادوا أن يُسَيِّروا القضاء في طريقه بعيداً عن تأثير الدولة ورجالها، فجلسوا في المساجد – وهي ملك للجماعة – واتخذوها مقراً للقضاء ومكاناً للتقاضي. ومن المعلوم أن القضاة أنفسهم هم الذين قرروا مبدأ إجراء القضاء في المسجد. وقضاتنا الأُول في المدينة وعواصم الإسلام الأولى لم يطلبوا من خلفائهم أن ينشئوا لهم دار للقضاء، بل اتخذوا مجالسهم في المساجد قصداً، وعقدوا مجالسهم فيها علناً، وأصدروا أحكامهم، ولم يتركوا للدولة إلا موضع تنفيذ الأحكام عن طريق أعوان يقفون خارج المسجد تحت تصرف القاضي.”[5]
وقد كان للمسجد دور كبير في معالجة المرضى، فقد “كان الأطباء المسلمون يعالجون فيه المرضى ويعطونهم الدواء دون مقابل أو قيمة، بل كانت تخصص أماكن من المسجد تودع فيها الأدوية والمشروبات العلاجية كما كان ذلك في جامع قرطبة وغيره لصرفها على الدارسين والمصلين إذا انتابهم المرض.
وفي سيرة أحمد بن إبراهيم وهو من أعظم أطباء المسلمين في وقته، وكان قيروانياً، أنه كان يخرج بعد صلاة العشاء ويقف على باب الجامع ليداوي المرضى من الفقراء، وكان يصطحب عبداً يحمل أصناف الأدوية فيعطيهم منها ما يرى، وكان يعمل ذلك حباً في الله وبرّا بأمة محمد r، وعلى هذا كان كثير من صلحاء أهل الطب”[6]
ووطن المسلم مدرسة كبيرة يتعلم فيها ومنها الكبير والصغير، والذكر والأنثى، يتربون على القيم والأخلاق والأعراف، ويتعلمون العلوم النافعة. وكما أن المسلم يتعلم في المسجد أمور دينه وآخرته، فإن المسلم يتعلم في وطنه أمور حياته ودنياه. والإسلام يحث على طلب العلم بكل صوره النافعة للفرد والمجتمع والوطن، قال عليه الصلاة والسلام: “من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة.” رواه مسلم. وفي العلوم والمعارف التي يتعلمها المرء في وطنه نفع للفرد والمجتمع، كما أنها نفع للإسلام والمسلمين، وهذه العلوم والمعارف هي كل علم نافع يتعلق بأمور الدين والدنيا. يقول الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله: “لكن من الخطأ أن نظن العلم المحمود هو دراسة الفقه والتفسير وما شابه ذلك من الفنون فحسب، وأما ما وراءها فهو نافلة يؤديها من شاء تطوعاً أو يتركها وليس عليه حرج ..!!
هذا خطأ كبير. فإن علوم الكون والحياة، ونتائج البحث المتواصل في ملكوت السماء والأرض لا تقل خطراً عن علوم الدين المحضة. بل قد يرتبط بها من النتائج ما يجعل معرفتها أولى بالتقديم من الاستبحار في علوم الشريعة.”[7]
وهكذا يتخرج من مدرسة الوطن الطبيب والمهندس والسياسي والقائد العسكري والميداني. ويتخرج منها – أيضاَ – المعلم والمربي وأصحاب الحرف اليدوية والمهارات العالية، كما يتخرج منها العالم والفقيه والمحدث والمرشد..
وعلى أبناء الوطن أن يحرصوا على جلب كل ما هو مفيد من العلوم النافعة إلى وطنهم، حتى يستغنوا بها عن الالتجاء إلى الآخرين. فـ”الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها“[8]. والمسلم لا يكتفي بالقليل من العلم، وإنما يبحث عن المزيد منه والمفيد، ففي الحديث: “لن يشبع مؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة” رواه الترمذي.
وكما تخرج هؤلاء من مدرسة الوطن، فهم يعودون إليه لينتفع بهم الوطن وينتفع بهم أبنا وطنهم، فـ”الأقربون أولى بالمعروف” و”خياركم خياركم لأهله“. فتجتمع طاقاتهم، وتتلاقح أفكارهم وخبراتهم، وتتحد جهودهم لينتفع بذلك وطنهم، ويعود خيرهم لبلادهم. ونستطيع أن نلمس أهمية تجميع الطاقات من حرص النبي r على تجميع طاقات المسلمين كلَّها في المدينة المنورة، فقد عاد الصحابة من الحبشة إلى المدينة، وهاجر من كان في مكة إلى المدينة، وجاء عدد من الصحابة إلى المدينة من أماكن مختلفة، حتى اجتمعت طاقات وقدرات الصحابة في المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية، وكوّنوا مجتمعاً عظيماً ذو قدرات عظيمة.
[1] ) محمد الغزالي – فقه السيرة صـ190.
[2] ) عبد الله قاسم الوشلي. المسجد وأثره في تربية الأجيال ومؤامرة أعداء الإسلام عليه – سلسلة نحو النور (8). صـ35.
[3] ) المصدر السابق صـ20.
[4] ) عبد الله قاسم الوشلي. المسجد ودوره التعليمي عبر العصور من خلال الحِلق العلمية – سلسلة نحو النور (9). صـ 67.
[5] ) عبدالله قاسم الوشلي. المسجد وأثره في تربية الأجيال ومؤامرة أعداء الإسلام عليه – سلسلة نحو النور (8) صـ20.
[6] ) المصدر السابق صـ21.
[7]) محمد الغزالي. خلق المسلم صـ231 .
[8] ) حديث رواه الترمذي.