قراءة كتاب

تمهيد

كتاب المجتمع المثالي الذي ننشده - إيحاءات من صلاة الجماعة

لا تقوم المجتمعات المثالية هكذا بمحض الصدفة او من تلقاء أنفسها، أو من خلال ارسال الأمنيات يمنة ويسرة، فالأحلام الوردية التي نسمع عنها هنا وهناك إنما هي أحلام يقظة، يعاني منها الكثير، ولا يتحقق من وراءها شيء، ولا نجد لها معالم يمكن ترجمتها إلى خطوات عملية لتحقيق هذه الأحلام. إن المجتمعات المثالية لا تُبنى هكذا بل على العكس من ذلك تماماً، فأينما وجدت مجتمعا مثالياً وجدت نظاما محكما ضاربا جذوره لعشرات السنوات، تمخض عن صراعات وتجاذبات بين الخير والشر، وبين المعتقدات الصحيحة والبطالة، طُويت صفحاتها، وتم أخذ الدروس والعبر منها، ولم يعد ممكنا تكرارها. هذا النظام استطاع أن يصهر الفرد في بوتقة الجماعة، وأن يوحد جهود الافراد والجماعات المتناحرة سابقاً إلى قوة واحدة اتجهت إلى تحقيق أهداف عامة للمجتمع، واستطاع أن يزيل الأنانية بين الناس والشح المطاع ويستبدلهما بحب الخير للآخرين، وأن يستبدل ثقافة العنصرية المقيتة والتعصب الأعمى إلى ثقافة التعايش والتفاهم، وثقافة ليعذر بعضنا بعضاً، ورأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ثقافة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

إن التحدث عن المجتمع المثالي يعني أن هناك فرد مثالي وأسرة مثالية ودولة مثالية ومن ثم مجتمع متكامل أو شبه متكامل في المثالية والسمو. فلا يعقل أن ننشد المثالية في مجتمعنا، ولم نستطع أن نحققها في أنفسنا، ولم نجدها ماثلة في أُسرنا ومجتمعاتنا المصغرة. إن الذي يسعى إلى تحقيق المثالية في المجتمع الكبير لا بد له أن يحقق ذلك أولاً في مجتمعه الصغير، وأول هذه المجتمعات هي الأنفس. كما أنه لا يمكن تحقيق المثالية في مجتمعاتنا إذا كان الفرد منا لا يستطيع التعايش مع نفسه أو مع من حوله، ولا يستطيع التعاون مع الآخرين لتحقيق منافع لمجتمعه، أو لا يستسيغ التنازل للآخرين من أجل مصلحة عامة. إن الفرد الذي يعيش معزولا عن بقية افراد المجتمعات – كما هو الحال في المدن الكبيرة – لا يمكن أن يرجى نفعه لمجتمعه، لأنه ببساطة لم يتم قياس موقفه في المواجهة الحتمية مع نفسه ومع الآخرين الذين – بطبيعة بشريتهم – يملكون غرائز وطبائع التملك والسيطرة والاستحواذ مشابهة لتلك التي يملكها، فكيف لمجتمع ما أن يستقر ولم يتم ترويض هذه الطباع والغرائز من خلال الانخراط وسط المجتمع ومحاولة التأقلم معه، والتنازل من أجل المصالح المشتركة، وهو أمر حتمي لا بد منه لتحقيق المثالية في المجتمع، ولذلك نجد أن النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم – مؤسس المجتمع المثالي الأول الذي لم ولن يتكرر – يقول: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” (صحيح رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد).

إننا عند حديثا هذا عن المثالية لا نعني عدم وجود نقص او عيب أو خلل في المجتمع، وإنما نعني بذلك أن الصفات الرئيسية للمجتمع المثالي والمتمثلة في نضج أفراده واستقامة سلوكياتهم وسمو تعاملاتهم وتفانيهم في تحقيق ما يقوم برفع مجتمعهم هي الغالبة على بقية الصفات النقيضة، والتي لا يخلو مجتمع منها.

إننا في هذا الكتاب نحاول استعراض معالجات الإسلام في انشاء مجتمع مثالي يقوم على التعايش والتعاون والاتحاد، مليء بكل ما هو جميل، وذلك من خلال التنقيب في صلاة الجماعة للبحث عن إيحاءات من شأنها أن تذكرنا بما أُريد لنا أن ننساه أو نجهله من معالم المجتمع المثالي الذي كان الجيل الأول ينعم به، وأن تروضنا على تشريعات وسنن تضمن لنا العيش في مجتمع مثالي خالي من العيوب والتناقضات. وعندما ننتهي من قراءة هذا الكتاب سنجد أن صلاة الجماعة تمتلك إيحاءات واضحة وجلية تكاد تكون معالم بارزة في طريق انشاء هذا المجتمع لا يمكن اغفالها او تجاهلها، ولن ننظر إليها بعد ذلك على أنها فقط عبادة مقتصرة على القيام والركوع والسجود الجماعي، خاوية من معاني أخرى عظيمة، أشار إليها ربنا تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت – الآية 45).

شمولية الاسلام

شاء الله أن يكون محمداً r خاتم الرسل، وأن يكون القرآن الكريم خاتم الكتب السماوية، وأن يكون الدين الإسلامي خاتم الأديان، وأن تكون هذه الأمة آخر الأمم، وخير أمة أخرجت للناس. ولذلك كان لزاما أن يكون هذا الدين صالحاً لكل زمان ومكان، شاملاً لكل جوانب الحياة المادية والروحية، وألا يدع جانباً دون آخر إلا وقد وضحه وبينه، وهو كذلك قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} الأنعام38، وقال أيضاً: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} النحل89.

يقول الدكتور عبد الله قاسم الوشلي في شرحه للأصل الأول من الأصول العشرين للإمام حسن البنا – رحمه الله: “كان أوائل المسلمين لا يحتاجون إلى هذا الأصل (شمولية الإسلام) لأنهم كانوا يعتقدون أن إسلامهم شمل كل شيء، ويفهمونه على هذا الأساس بفطرتهم السليمة وسليقتهم العادية، حتى قال خليفتهم الأول أبو بكر الصديق t: (لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله).

وكانوا يحرصون على تطبيق الإسلام كلية ودون أن يكون لهم الخيار فيه ولا في بعض أجزائه، وكانوا يحذرون من الدخول في نطاق معنى قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} البقرة 85.

وإنما احتاج إليه المسلمون فيما بعد، لتأثر فطرتهم وتغير سليقتهم، ولما أصاب إيمانهم من دخَن وتصوراتهم من غبش وفهمهم من تشويش بسبب العلوم الأعجمية الدخيلة عليهم في البلدان المفتوحة والاختلاط بأهلها والتأثر بثقافتها.”[1]

إن هذا الفكر القاصر الذي ذكره الدكتور الوشلي يتناقض مع حديثنا عن المجتمع المثالي، الذي يتسم بوجود علاقات وروابط واسعة بين أفراد المجتمع لا بد من تنظيمها، ومجالات متشعبة ينبغي الاعتناء بجميعها، وحديثنا في هذا الكتاب عن صلاة الجماعة وعلاقتها بتنظيم المجتمع حتى يصير مجتمعاً مثاليا يحلم به الجميع، حديث مرتبط بهذا الأمر، ولذلك لا بد أولا من مناقشة بعضاً من هذه التصورات المغلوطة والمفاهيم الخاطئة والتي درجت عليها ألسن الناس واستقرت في عقولهم وقلوبهم، والتي تتناقض كليةً مع المجتمع المثالي، ولقد روج لمثل هذه المفاهيم الخاطئة المغرضون والحاقدون على دين الإسلام في الداخل والخارج بغرض صرف أبناء الإسلام عن الفهم الصحيح لهذا الدين، والحيلولة دون تكرار النموذج الأول من المجتمع المثالي، حتى صارت هذه المفاهيم المنحرفة – عند كثير من الناس – تشريعاً سماوياً لا يجوز لأحد مخالفته، وإن خالفه أحد فقد ابتدع في الدين وخالف الأولين، شعارهم {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} (صّ:7).


[1] ) د.عبد الله قاسم الوشلي. النهج المبين لشرح الأصول العشرين صـ33.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى