أثرت هذه المفاهيم المغلوطة والخاطئة سلباً على فهم المجتمع لدينه وواجبه في هذه الحياة. وقد جاءت هذه المفاهيم نتيجة لجهل الناس بدينهم، وبُعدهم عن المنهج الصافي، وانشغالهم بالقشور من العلم. ومن هذه المفاهيم الخاطئة ما يلي:
المفهوم الخاطئ الأول: لا علاقة للدين بالسياسة!
منشأ هذا المفهوم الخاطئ هو الدين النصراني المحرّف الذي أرادت من خلاله الكنيسة أن تحكم الشعوب بالتعاليم النصرانية المحرفة والتي تتنافى مع الحياة الكريمة ومع الاكتشافات العلمية الحديثة، مما دفع الكثير من أصحاب الفكر في تلك المجتمعات إلى تنحية الكنيسة عن الأمور المتعلقة بالدولة وساد مفهوم “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”.
والقائل بهذا المفهوم لا يخلوا أن يكون أحد ثلاثة: إما أن يكون جاهلا بالإسلام وأحكامه ورسالته، أو أن يكون مؤْثراً للسلامة ويخشى مواجهة الاخرين عند الأخذ بالإسلام بشموليته، أو أن يكون مضمرا في نفسه معادة الإسلام الشامل رهبةً من أعداء الله أو رغبة في تحقيق مآرب دنيوية.
وهذا المفهوم لا ينطبق على الدين الإسلامي، الذي تكفل الله بحفظه ونصرته، والذي أنزله الله نبراساً للناس يرشدهم وينظم حياتهم كلها، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقوَمُ} (الإسراء: من الآية 9)، وقال: {وَلَقَدْ صَرَّفنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} (الإسراء: 89)، وقال: {وَلَقَدْ صَرَّفنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثرَ شَيْءٍ جَدَلا} (الكهف:54). والقائل بهذا المفهوم الخاطئ لم يقرأ سيرة النبي r ولا سيرة الخلفاء من بعده. إذ كيف ساس النبي r الدولة الإسلامية؟ ألم يتحدث عليه الصلاة والسلام عن الحكم، وعن الحاكم العادل والحاكم الظالم، وعن العلاقة بين الحاكم ورعيته، وعن مسئولية الرعية تجاه حاكمها ومسئولية الحاكم تجاه رعيته؟ ألم يكن هو من يقود الدولة المسلمة ويسوسها بالقرآن الكريم الذي قال الله U عنه: {مَّا فرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} الأنعام 38؟ ألم يجاهد الرسولُ الأعظم من وقف حائلاً بين الدين الإسلامي وبين الناس من الحكام الظالمين المتكبرين؟ .. ثم ألم يفزع صحابة رسول الله r بُعيد موته عليه الصلاة والسلام وقبل دفنه – إلى اختيار من يحكمهم ويتحمل أعباء الدولة المسلمة بعد رسول الله؟ وغيرها الكثير من الدلائل على أنه لا يوجد فصل بين الدين والدولة في الإسلام، وأن السياسة هي جزء من الدين الإسلامي، فهناك الفقه السياسي وهو جزء لا يتجزأ من الفقه العام في الإسلام “فالحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع”[1].
والسياسة التي يقصدون هي التحدث في أمر السلطان، أو مقارعة الظلم وأهله، أو الاهتمام بشؤون المسلمين أينما كانوا، أو الوقوف مع الحق ضد الباطل، أو تعليم الناس ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وهذا من صميم الإسلام، وقد قام به إمام المسلمين وقدوتهم – محمد r وقام به الصحابة والتابعون.
والسياسة التي يريدونا أن نبتعد عنها هي الحديث عن الحرية والعزة والكرامة وحقوق الإنسان، وهذا ليس بجديد عن ديننا الحنيف، فالقرآن الكريم والسنة المطهرة وأقوال السلف الصالح مليئة بكل ما يحتاجه المرء ليحيا حراً عزيزاً كريماً ينعم بحقوقه التي كفلها الله له.
والمتأمل في الأحاديث النبوية سيلاحظ أن الأحاديث التي تتحدث عن هذه الجوانب – وكلها مواضيع تُصنف هذه الأيام على أنها أمور سياسية – يفوق عددها تلك التي تهتم بالجوانب الفقهية والعبادية، وفي ذلك دلالة على اهتمام الإسلام بهذا الجانب، لأن اهتمام المسلمين به علامة قوة وعزة وتمكين، وعزوفهم عنه أو خوفهم من الخوض فيه دليل ضعف وهوان وتبعية لكل ناعق، وهذا ما يسعى إليه أعداء الإسلام.
“ولئن كان أمر الأمة الجامع لا يصلح إلا بما صلح به أولها، وكان نظام الحكم أول ما انتقض من عرى الإسلام، كما أشار إلى ذلك رسول الله r، فإن نقطة البدء ينبغي أن تكون معالجة الشأن السياسي الذي اختل فكرا وتنظيرا وتطبيقا منذ سقوط الخلافة الراشدة ولما يشتد عودها.”[2]
والمسلم ينبغي أن يكون ملما بالجوانب السياسية، إلماما يسمح له بأن يميز بين الحق والباطل، والخير والشر، ويستطيع به أن يتخذ القرار السليم وأن يقف الموقف السليم فيما يتعلق بأمور دينه ودنياه، وألا يكون أداة لينة بيد الظالمين تشرعن لهم طغيانهم وتؤسس لجبروتهم. يقول الإمام حسن البنا – رحمه الله – في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين المنعقد في شهر المحرم سنة 1357ه : “أستطيع أن أجهر في صراحة بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسياً، بَعيد النظر في شؤون أمته، مهتماً بها، غيوراً عليها، وأستطيع أن أقول: إن هذا التحديد والتجريد أمر لا يقره الإسلام، وإن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية وإلا كانت هي نفسها تحتاج إلى تفهم معنى الإسلام.”[3].
ولا أعني بأن يكون المسلم ملما بالجوانب السياسية تلك الممارسات التي طغت على كثير من الأفراد والجماعات في مجتمعاتنا المسلمة من مشاحنات وخصومات، والتي لا تعود على المجتمع إلا بمزيد من الانقسام والتشرذم والتمزق، وتورث البغضاء والاحقاد والضغينة، وتؤدي في النهاية إلى إضعاف المجتمع وتمزيقه. إنما أعني بذلك أن يكون المسلم ذا وعي وبصيرة، يُأهلاه إلى أن يكون قادراً على معرفة ما يدور حوله من كيد ومؤامرات، فيقف حائلا دون تحقيق الأعداء لأهدافهم، ويستطيع أن يميز الغث من السمين، وأصحاب المبادئ السامية الذين يؤمنون بها اعتقاداً وعملاً، وبين من يجعلون هذه المبادئ ستاراً لهم يخفون تحتها عوراتهم الفكرية والأخلاقية.
وعندما فقه الآخرون هذا الجانب، وفقه حكامهم ما لهم وما عليهم، وفهمت رعيتهم كذلك ما لها وما عليها، وفقهوا جميعاً واجباتهم وحقوقهم، وأدركوا جميعهم – الراعي والرعية – أهمية هذا الأمر … وَفَّروا الجهود، واختصروا الأزمان، وركّزوا اهتماماتهم على الجوانب الأخرى التي فيها خدمة لبلادهم ورقياً لمجتمعاتهم… فصار ذلك حالهم .. رقي وازدهار وتقدم، في حين أن البلاد الإسلامية لا زالت ترزح تحت حكم الجهل والاختلاف على أبسط القضايا السياسية وغير السياسية!
المفهوم الخاطئ الثاني: للحاكم الحرية المطلقة في فعل ما يريد!
وهذا مفهوم آخر خاطئ أيضاً، إذ هو منافٍ لشرع الله، وهو منافٍ لمعنى العبادة التي هي الخضوع لشرع الله، والانقياد لأحكامه التي أحل بها الحلال وحرم الحرام، وفرض الفرائض، وحد الحدود، ويقصدون بالحاكم في هذا المفهوم كل من له سلطة، كبيرةً كانت أم صغيرة، وهو ما يطلق عليه في الإسلام بالراعي، مهما كان حجم من يرعاهم، أو حجم المسؤولية اليت يتحملها.
فالحاكم أو صاحب السلطة فرد من المسلمين يخضع لشرع الله وينقاد لأحكامه. فإن زعم أن له أن يشرّع ما شاء، أمراً ونهياً وتحليلاً وتحريماً، بدون إذن من الله، فقد تجاوز حده، وجعل نفسه ربّاً أو إلهاً من حيث يدري أو لا يدري!
ومن أقرّ له بهذا الحق، وانقاد لتشريعه ونظامه، وخضع لمذهبه وقانونه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فقد اتخذه ربّا، وعبده مع الله، أو من دون الله، ودخل في زمرة المشركين من حيث يشعر أو لا يشعر. وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة 31.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: “وقوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم} روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم t أنه لما بلغته دعوة رسول الله r فرّ إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية، فأُسِرَت أخته وجماعة من قومه، ثم منّ رسول الله r على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله r، فقدم عدي إلى المدينة – وكان رئيساً في قومه “طيء” وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم – فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله r وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: «بلى إنهم حرّموا عليهم الحلال وأحلّوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم». …
وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا، وقال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم” [4].
وهذا الأمر لا يقتصر على الحاكم وحده، بل يشمل جميع الخلق، فكل واحد يؤخذ من قوله ويرد إلا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد حرية مطلقة لا لحاكم ولا لعالم أو صاحب جاه أو سلطان مهما كانت منزلته أو مكانته بين الناس، ولا لقوة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو أكثرية عددية مهما كانت نسبتها بين المجتمع. فينبغي أن ننزل الناس منازلهم، وأن نعطي لكل أحد حجمه الحقيقي الذي لا يعدو أن يكون مخلوقاً من مخلوقات الله، وألا نعظم أحدا غير الله، وألا نغالي في مدح أحد من المخلوقات أو تعظيمه، أو إعطاءه الحق في تجاوز الحدود، أياً كان هذا الأحد، لأن هذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وخشيه على أمته، حتى وإن كان المعظَم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «لا تُطْروني كما أَطْرت النصارى ابنَ مريم؛ إنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله»[5].
وهكذا نجد الاتزان في دين الله في التعامل مع الآخر، أياً كان هذا الآخر، وأنه لا يوجد هناك “حرية مطلقة” لا للحاكم ولا لغيره، وأنه لا يسع الحاكم – وهو فرد من المسلمين، ينطبق عليه ما ينطبق عليهم من الأحكام والتشريعات – إلا أن يحكم بما أنزل الله، ولا يحق له أن يتجاوزه، إلا في حدود الاجتهاد المسموح به في شرع الله ووفق ضوابط معينة حددها العلماء. يقول الدكتور عبدالكريم زيدان بعد أن بين أن سلطان الأمة غير مطلق: “وإذا كان سلطان الأمة مقيد بسلطان الإسلام أي بشرائعه وأحكامه ونظمه، ومنها نظام الحكم، فإن الخليفة – وهو نائبها – سلطانه في الحكم مقيد أيضاً بسلطان الإسلام، لأنه لا يملك الوكيل أكثر مما يملكه الموكل من سلطة وحق.. فسلطانه، سلطان تنفيذ للشرع، وليس بسلطان ابتداع لشرع، ولهذا قال عمر بن عبدالعزيز في خطبته بعد توليه الخلافة: إنما أنا متبع ولست بمبتدع.”[6]
المفهوم الخاطئ الثالث: على الرعية أن تطيع الحاكم طاعة مطلقة!
وهذا المفهوم الخاطئ جعل الكثيرين يستسلمون لما يُسن من قوانين وشرائع باطلة ومخالفة للشرع. فكما أنه ليس هناك حرية مطلقة للحاكم في سن ما يشاء وتشريع ما يشاء، فإنه كذلك ليست هناك طاعة مطلقة من قبل الرعية لحكامها. فالرسول الكريم r يقول: «السَّمْعُ والطَّاعَةُ عَلى المَرْءِ المُسْلِم فِيما أَحَبَّ وكِرَهَ، مَا لم يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإذا أُمِر بِمعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلا طاعَةَ» متفقٌ عليه، وعَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَة – رضي اللَّه عنها – عن النبي r أنه قال: «إِنَّهُ يُسْتَعْملُ عَليْكُمْ أُمَراءُ فَتَعْرِفُونَ وتنُكِرُونَ فَمِنْ كَرِه فقَدْ بَرِىءَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ منْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قالوا: يا رَسُولَ اللَّه أَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لاَ، مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ» رواه مسلم. وحين أراد عمر بن الخطاب – وهو خليفة المسلمين آن ذاك – أن يحدد مهور النساء، وقفت امرأة من نساء المسلمين واعترضت على هذا القرار وأظهرت حجتها، عند ذلك أقرّ عمر بخطئه وتراجع عن قراره. هذه الحادثة تبين ما ذكرنا من أنه لا حرية مطلقة للحاكم في إقرار ما يريد ولا طاعة مطلقة على الرعية لحكامها، بل إن الحاكم يحكم وفق ما أنزل الله ووفق ما تمليه مصلحة البلاد بما لا يخالف شرع الله، والرعية تطيعه طاعة مبصرة في المعروف، قال r: «لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف» متفق عليه.
وسيتم مناقشة المفهومين الأخيرين بتوسع في الفصل الثاني إن شاء الله.
[1] ) الإمام حسن البنا – مجموع الرسائل – رسالة المؤتمر الخامس صـ201.
[2] ) الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي – الدولة الإسلامية.. شرعية الوجود وآلية التأسيس والتشريع والتسيير.
[3] ) محمد عبد القادر أبو فارس – الفقه السياسي عند الإمام الشهيد حسن البنا – صـ23.
[4] ) تفسير ابن كثير – للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير المجلد الثاني صــ349.
[5] ) [صحيح] – [رواه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه]
[6] ( د. عبدالكريم زيدان – أصول الدعوة صـ226.