المبحث الرابع: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بوطن المسلمين (2)
المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني
رابعاً: بناءه وصيانته والمحافظة عليه
لقد كان أول عمل قام به النبي r حال وصوله المدينة لتأسيس الدولة المسلمة، أن قام ببناء المسجد النبوي، فعندما وصل النبي r المدينة شرع يحدد مكانا لبناء مسجد يكون ملتقى المؤمنين ومنطلقاً لهم لنشر دين الله، فقام الصحابة رضوان الله عليهم – ومعهم النبي r – ببناء هذه المسجد كما أمرهم النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم. يقول محمد الغزالي: “وجعل طوله مما يلي القبلة إلى المؤخرة مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك تقريباً، وجعلت عضادتاه من الحجارة، وحفر الأساس ثلاثة أذرع، ثم بني باللبن. واشترك الرسول r وأصحابه في حمل اللبنات والأحجار على كواهلهم.
وكانوا يروِّحون عن أنفسهم عناء الحمل والنقل والبناء .. بهذا الغناء:
اللهمَّ لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة!!
وقد ضاعف حماس الصحابة في العمل رؤيتهم النبي r يجهد كأحدهم، ويكره أن يتميز عليهم، فارتجز بعضهم هذا البيت:
لئن قعدنا والرسول يعمـــــــل لذاك منّا العمل المضلَّل!!
وتم المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح.”[1]
وجاء الخلفاء الراشدون فاجتهدوا في المحافظة عليه وصيانته وتوسيعه، “جاء الخليفة أبو بكر فجدد بناءه، ولم يزد عليه شيئاً. ثم جاء عمر الخليفة الثاني ووسعه بنفس البناء، إلا أنه جعل عمده خشباً. ثم جاء الخليفة الثالث عثمان وزاد فيه وبنا جداره بالحجارة المنقوشة وسقفه من الساج.”[2]
ذاك هو مسجد رسول الله r المتواضع في بنايته، العظيم في مكانته في المجتمع المسلم، “فمكانة المسجد في المجتمع الإسلامي، تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم؛ وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام، لكن الناس – لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة – استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة، تضم مصلين أقزاماً!!.”[3]
ولأن المساجد هي أحب البقاع إلى الله فقد حث الإسلام على بناءها لتكون نبراساً للمسلمين، ومأوىً لأفئدتهم وقلوبهم، ومنطلقاً لهم لنشر دينهم وبناء دنياهم. عن عثمان أن النبي r قال: “من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتا في الجنة” متفق عليه. وروى أحمد وابن حبان والبزار بسند صحيح عن ابن عباس أن النبي r قال: “من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها[4]، بنى الله له بيتا في الجنة”.
وجعل من واجبات المسلم أن يحافظ عليها، فلا يسمح أن تكون لغير ما بُنيت من أجله. عَنْ أبي هُريْرَةَ t أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّه r يقُولُ: «مِنْ سمِعَ رَجُلاً ينْشُدُ ضَالَّةً في المسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدهَا اللَّه علَيْكَ، فإنَّ المساجدَ لَمْ تُبْنَ لهذا» رَواهُ مُسْلِم.وعَنْ بُريْدَةَ t أَنَّ رَجُلاً نَشَدَ في المَسْجِدِ فَقَالَ: منْ دَعَا إِليَّ الجَملَ الأَحْمرَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «لا وَجَدْتَ إِنَّمَا بُنِيَتِ المَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ» رواه مسلم. وعَنْ أبي هُريْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: «إِذا رأَيتم مَنْ يَبِيعُ أَو يبتَاعُ في المسجدِ، فَقُولُوا: لا أَرْبَحَ اللَّه تِجَارتَكَ، وَإِذا رأَيْتُمْ مِنْ ينْشُدُ ضَالَّةً فَقُولُوا: لا ردَّهَا اللَّه عَلَيكَ». رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وَعَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r نَهَى عَنِ الشِّرَاءِ وَالبَيْعِ فِي المسْجِدِ، وَأَنْ تُنْشَدَ فيهِ ضَالَّةٌ، أَوْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ. رواهُ أَبُــو دَاودَ، والتِّرمذي وقال حَديثٌ حَسَنٌ.
“والشعر المنهي عنه ما اشتمل على هجو مسلم أو مدح ظالم أو فحش ونحو ذلك. أما ما كان حكمة أو مدحا للإسلام أو حثا على برّ فإنه لا بأس به، فعن أبي هريرة أن عمر مرّ بحسّان ينشد في المسجد فلحظ إليه[5]. فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله! أسمعت رسول الله r يقول: ” أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟” قال” نعم. متفق عليه.[6]
والمساجد هي أطهر البقاع على الأرض، فلا ينبغي أن تكون مكاناً للأوساخ والقاذورات، وعلى المسلم أن يحافظ على نظافتها وجمالها، “فالمساجد بيوت العبادة فيجب صيانتها من الأقذار والروائح الكريهة. فعند مسلم أن النبي r قال: “إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن“. وعند أحمد بسند صحيح أن النبي r قال: “إذا تنخم أحدكم فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه“. وروى هو والبخاري عن أبي هريرة أن النبي r قال: “إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يبزقن أمامه فإنه يناجيه الله تبارك وتعالى مادام في مصلاه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها“، وفي الحديث المتفق على صحته عن جابر أن النبي r قال: “من أكل الثوم والبصل والكراث[7]، فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم”. وخطب عمر يوم الجمعة فقال: إنكم أيها الناس تأكلون من شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين (البصل والثوم)، ولقد رأيت رسول الله r إذا وجد ريحهما من الرجل أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلها فليمتهما طبخا. رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وحرص الإسلام على أن يحافظ المصلون على سكينة المسجد، وعدم إيذاء المصلين فيه. فعن عبد اللَّه بن مسعودٍ t قال: قال رسول اللَّه r: «لِيَلِني مِنْكُمْ أُولُوا الأَحْلامِ والنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ثَلاثاً «وإِيَّاكُم وهَيْشَاتِ الأَسْواقِ[8]» رواه مسلم. وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يزيدَ الصَّحَابي t قالَ: كُنْتُ في المَسْجِدِ فَحَصَبني رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ t فَقَالَ: اذهَبْ فأْتِني بِهَذيْنِ فَجِئْتُهُ بِهمَا، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ فَقَالا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، لأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ r؟ رَوَاهُ البُخَارِي.
يقول السيد سابق: “ويحرم رفع الصوت على وجه يشوش على المصلين ولو بقراءة القرآن. ويستثنى من ذلك درس العلم. فعن ابن عمر أن النبي r خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: “إن المصلي يناجي ربه عز وجل فلينظر بم يناجيه؟ ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن” رواه أحمد بسند صحيح، وروى عن أبي سعيد الخدري أن النبي r اعتكف في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: “ألا أن كلكم مناج ربه، فلا يوذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض بالقراءة“، رواه أبو داود والنسائي والبيهقي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين.”[9]
وأمر بتنظيفها وتطييبها. “روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان بسند جيد عن عائشة أن النبي r أمر ببناء المساجد في الدور، وأمر بها أن تنظف وتطيب. ولفظ أبي داود: (كان يأمرنا بالمساجد أن نصنعها في دورنا ونصلح صنعتها ونطهرها، وكان عبد الله يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر). وعن أنس قال، قال رسول الله r: “عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل إلى المسجد” رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة.”[10]
ومن المسجد يتعلم المسلم حقيقة الانتماء للوطن، وضرورة المحافظة عليه، فوطن المسلمين أولى بطاقات أبناءه وقدراتهم وسواعدهم، فإذا ما اتجه المسلمون بقدراتهم وطاقاتهم نحو بناء وطنهم ازدهر هذا الوطن وتقدم وعاد خيره على أبناءه الذين اجتهدوا في بناءه ورقيه وازدهاره. فالصانع يُسخّر صناعته من أجل وطنه، والتاجر يهدف من تجارته إلى رقي مجتمعه واستغناءه عن الآخرين، والمهندس والمزارع والبناء والنجار والعالم والمواطن العادي – ذكوراً وإناثاً .. صغاراً وكباراً – كلهم يعملون من أجل بناء وطنهم ورقيه وازدهاره.
ولقد حث الإسلام على بناء الأوطان والمحافظة عليها، وجعل ذلك من مقتضيات الاستخلاف في الأرض، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} هود: من الآية 61، وعمارتها تكون بالبناء والتنمية والإنتاج والتقدم والرقي والحضارة .. والمحافظة على خيراتها وثرواتها.
والمتأمل في تعاليم الإسلام يجدها في مجملها تحث على بناء المجتمع والمحافظة عليه وصيانته. فبناء الوطن والمحافظة على وحدته – ارضاً وانسانا – واجب الجميع، والكل – بلا استثناء – مطالب بنبذ ما من شأنه الاخلال بوحدته وأمنه واستقراره، وهو مطالب أيضاَ بالوقوف ضد من يحاول المساس بأمن الوطن واستقراره وسكينته ووحدته أياً كان منصبة، ومهما كانت مكانته، يقول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103). وحديث رسول الله يشدد على الوقوف ضد من يريد الفرقة ويسعى من أجلها، فعن عرفجة قال: سمعت رسول الله r يقول: “إنه سيكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان“. صحيح مسلم.
وها هو عليه الصلاة والسلام يحث المسلم على ما فيه عمارة وصيانة للأوطان، فيحث المسلم على الزراعة والتشجير، فعنْ جابرٍ t قال: قال رسول اللَّه r: «ما مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً إلاَّ كانَ ما أُكِلَ مِنْهُ لهُ صدقةً، وما سُرِقَ مِنْه لَه صدقَةً، ولا يرْزؤه أَحَدٌ إلاَّ كَانَ له صدقةً» رواه مسلم. وفي رواية له: «فَلا يغْرِس الْمُسْلِم غرساً، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنسانٌ ولا دابةٌ ولا طَيرٌ إلاَّ كانَ له صدقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامة». وفي رواية له: «لا يغْرِس مُسلِم غرْساً، ولا يزْرعُ زرْعاً، فيأْكُل مِنْه إِنْسانٌ وَلا دابَّةٌ ولا شَيْءٌ إلاَّ كَانَتْ لَه صدقةً».
وهنا نجده r يحث على المحافظة على الطرقات، فعن أَبِي ذرٍّ t قال: قال النبي r: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أعْمالُ أُمَّتي حسَنُهَا وسيِّئُهَا فوجَدْتُ في مَحاسِنِ أعْمالِهَا الأذَى يُماطُ عن الطَّرِيقِ، وَوجَدْتُ في مَساوَىءِ أعْمالِها النُّخَاعَةُ تَكُونُ فِي المَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ» رواه مسلم. وعن أبي هُريرة t، أنَّ رسول اللَّه r قال: «الإيمَانُ بِضْع وسبْعُونَ، أوْ بِضْعُ وَسِتُّونَ شُعْبةً، فَأَفْضَلُها قوْلُ لا إله إلاَّ اللَّه، وَأدْنَاها إمَاطةُ الأَذَى عنَ الطَّرِيقِ، والحياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ» متفق عليه.
[1] ) محمد الغزالي – فقه السيرة صـ189.
[2] ) عبد الله قاسم الوشلي. المسجد وأثره في تربية الأجيال ومؤامرة أعداء الإسلام عليه – سلسلة نحو النور (8). صـ17.
[3] ) محمد الغزالي – فقه السيرة صـ190.
[4] ) المفحص : الموضع الذي تبيض فيه القطاة . والقطاة : طائر .
[5] ) فلحظ إليه: أي نظر إليه شزرا.
[6] ) السيد سابق. فقه السنة (المجلد الأول) صـ221.
[7] ) أكل هذه الأشياء مباح إلا أنه يتحتم على من أكلها البعد عن المسجد ومجتمعات الناس حتى تذهب رائحتها. ويلحق بها الروائح الكريهة كالدخان والتجشؤ والبخر.
[8] ) هيشات الأسواق: اختلاط الأصوات كما يقع في الأسواق.
[9] ) السيد سابق. فقه السنة (المجلد الأول) صـ221.
[10] ) المصدر السابق صـ220.