قراءة كتاب

المبحث الثاني: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بإمام المسلمين (الحاكم) (6)

المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني

سابعاً: ينطبق عليه ما ينطبق على الرعية من الأحكام والقوانين

في صلاة الجماعة نلاحظ أن الإمام يؤدي نفس الأعمال التي يؤديها المصلون بعده، فالواجبات هي واجبات على الإمام كما هي على المأمومين. فيجب على الإمام من الواجبات والأركان ما يجب على المأمومين، ويحظر عليه ما يحظر عليهم. فلا يتميز عنهم إلا بالحمل الملقى على عاتقه، فهو كما جاء في الحديث (الإمام ضامن) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وصححه الألباني.

وهذا الأمر ينبغي أن ينعكس على حياة المسلم، فقد حرص الإسلام على أن يكون المرء قدوة في كل شيء، فأقواله لا بد أن تطابق أفعاله. ومقت الإسلام من تخالف أفعاله أقواله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} الصف:2، وعن أَبي زيدٍ أُسامة بْنِ حَارثَةَ، رضي اللَّه عنهما، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه r يَقُولُ: «يُؤْتَـى بالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيامةِ فَيُلْقَى في النَّار، فَتَنْدلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ في الرَّحا، فَيجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّار فَيَقُولُونَ: يَا فُلانُ مَالَكَ؟ أَلَمْ تَكُن تَأْمُرُ بالمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بالمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيه، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآَتِيهِ» متفق عليه.

وهذا الأمر لا يقتصر على الدعاة فقط، بل إن الحاكم يندرج تحت هذا الحكم، فكثيرٌ ما نجد من الحكام من يأمر الناس بأمور يخالفها في الباطن، ويظهر للناس ما يخفيه عنهم، وهذا الأمر لا يصح في الإسلام، فالحاكم في خطر عظيم أكثر من غيره، لأن الحمل عليه أكبر، وعليه أن يكون أكثر التزاماً بالقوانين، وألا يكون أول مخالفٍ لها. وقد أخبر الله عن شعيب u كراهيته لذلك فقال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} هود88، وشدد الله في تحذير نبيه محمد r من مخالفة ما يدعو الناس إليه، فقال: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً {74} إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} الإسراء75. وقد أخذ الخلفاء الراشدون هذا الأمر بجدية، فهذا عمر يعلّم ولاته على الأمصار حقيقة هذا الأمر، فيقول في رسالة أرسلها إلى أبي موسى الأشعري t وقد كان والياً على الكوفة: (يا أبا موسى إنما أنت واحد من الناس، غير أن الله قد جعلك أثقلهم حملاً .. إن من ولي أمر المسلمين يجب عليه ما يجب على العبد لسيده)[1]

ولا شك أن الحاكم يحرص على أن تلتزم رعيته الأحكام والقوانين حتى يستقيم له الأمر وتنضبط الحياة، ولكن من غير المعقول والمقبول أن يُطلب هذا من الرعية، ولا يدخل الحاكم تحت هذا الحكم، وفي هذا الأمر يقول تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} البقرة:44، فهذا الأمر يتنافى مع المنطق والعقل {أَفَلا تَعْقِلُونَ}. وقد أورد ابن كثير عن الطبراني في تفسير هذه الآية حديثاً لابن عمر t قال: قال رسول الله r: (من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به، لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه)[2].

وعندما أمر النبي r الصحابة أن يتحللوا من العمرة في صلح الحديبية وينحروا ويحلقوا، لم يستجب له أحد – نتيجة لتأثرهم ببنود الصلح – فطلبت منه أم سلمة – رضي الله عنها –  أن يبدأ هو فيتحلل من إحرامه وينحر ويحلق، ففعل ذلك، فرآه الصحابة ففعلوا ذلك.

 وكان عمر بن الخطاب t إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: لا أعلمن أحدا وقع في شيء مما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة.[3]

ونجد أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t عندما وجد درعه مع اليهودي لم يستخدم سلطته – وهو حاكم المسلمين – لينتزعها من اليهودي، بل اتجه للقضاء ورضي بحكم القاضي. فعن ميسرة عن شريح القاضي قال: لما توجه علي إلى صفين افتقد درعا له، فلما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة أصاب الدرع في يد يهودي فقال لليهودي: الدرع درعي لم أبع ولم أهب. فقال اليهودي: درعي وفي يدي. فقال: نصير إلى القاضي فتقدم علي فجلس إلى جنب شريح، وقال لولا أن خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس ولكني سمعت رسول الله r يقول: (أصغروهم من حيث أصغرهم الله) فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين! فقال: نعم، هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي لم أبع ولم أهب، فقال شريح: أيش تقول يا يهودي قال: درعي وفي يدي. فقال شريح: ألك بينة يا أمير المؤمنين، قال: نعم ولدي الحسن والحسين يشهدان أن الدرع درعي، فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال علي: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول الله r  يقول: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه قضى عليه؟ أشهد أن هذا هو الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأن الدرع درعك.[4]

وهذا الشيخ محيي الدين النووي يرفض إصدار الفتوى للحاكم بجواز أخذ مال من الرعية لمواجهة الأزمات إلا إذا بدأ الحاكم بنفسه وأهله- وكان الحاكم في ذلك الوقت هو الظاهر (بيبرس)، وكان يريد المال للاستعانة به في تجهيز الجيش والسلاح، ودفع رواتب الجند، ومواجهة التتار القادمين لغزو البلاد الإسلامية. فيسأله عن سبب امتناعه، فيجيبه الشيخ: “أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير )بندقدار) وليس لك مال، ثم منّ الله عليك وجعلك ملكاً، وسمعت عندك ألف مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائتا جارية لكل جارية حق من الحلي، فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت مماليكك بالبنود والصرف بدلاً من الخوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية”[5]

ثامناً: الاستخلاف وجواز انتقال الإمام مأموماً

في صلاة الجماعة قد يعرض للإمام عارض يخرجه من صلاته، كأن يحدث في صلاته أو يتذكر أنه أحدث، فهنا يجب عليه ألا يستمر في صلاته، لأن صلاته في هذه الحالة باطلة وسيتحمل صلاة من خلفه، وعليه أن يترك الصلاة ويستخلف بدلاً عنه من يصلح للإمامة. يقول سيد سابق – رحمه الله: “إذا عرض للإمام وهو في الصلاة عذر كأن ذكر أنه محدث، أو سبقه الحدث، فله أن يستخلف غيره ليكمل الصلاة بالمأمومين. فعن عمرو بن ميمون قال: إني لقائم ما بيني وبين عمر – غداة أُصيب – إلا عبد الله بن عباس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، وتناول عمر عبدَالرحمن بن عوف فقدمه فصلى بهم صلاة خفيفة. رواه البخاري. وعن أبي رزين قال: صلى عليٌّ ذات يوم فرَعُفَ فأخذ بيد رجل فقدمه ثم انصرف.”[6]

وإن لم يستخلف أحداً فللمأمومين أن يختاروا واحداً منهم بالإشارة ليقدموه إماماً لهم ليتم لهم ما تبقى من الصلاة، يقول الدكتور القليصي: “ولو خرج الإمام من الصلاة ولم يستخلف أحداً يجوز للمأمومين أن يقدموا واحداً بالإشارة أو يتقدمهم أحدهم بنفسه.”[7]

أمّا إذا حضر الإمام الراتب – من هو أهل بالإمامة وله الحق فيها – فيجوز للإمام المُستَخْلَف أن ينتقل مأموماً، “لحديث الشيخين عن سهل بن سعد: أن رسول الله r ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذّن إلى أبي بكر فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ قال: نعم، قال” فصلى أبو بكر فجاء رسول الله r والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله r فأشار إليه رسول الله: أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله r من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوي في الصف وتقدم النبيُ r فصلى ثم انصرف، فقال: (يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟) فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله r، فقال رسول الله r: (مالي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء)”[8]

وكذلك الحال بالنسبة للحاكم المسلم، فقد يطرأ عليه – وهو في دفة الحكم – ما يستوجب خروجه عن الحكم، كزوال العقل وفقدان بعض الحواس ووقوعه في الأسر والكفر والردة والفسق وغيرها من الحالات التي ذكرها علماؤنا الأجلاء.[9] وعِلّة ذلك أن هذه الحالات تمنعه أو تعيقه عن النظر في مصالح المسلمين والنهوض بما نُصّب لأجله، يقول د. محمد أبو فارس: “وقد ذهب الإمام أبو بكر الباقلاني إلى وجوب عزل من صمّ أو خرس وكَبُر وهَرِم أو عرض له أمر يقطع عن النظر في مصالح المسلمين والنهوض بما نُصّب لأجله أو عن بعضه، لأنه إنما أقيم لهذه الأمور، فإذا عطل وجب خلعه ونصب غيره.”[10]

وهنا يستوجب عليه خلع نفسه والانتقال من دفة القيادة إلى صفوف الأفراد. يقول الدكتور محمد أبو فارس: “وأن يتقدم الإمام بخلع نفسه أمر غير مستهجن، ولا مستحيل الوقوع، فقد احتمله الفراء، فقد جاء في كتابه الأحكام السلطانية: (وإذا خلع الخليفة نفسه، أما بطريان عذر أو قلنا له أن يخلع نفسه انتقلت الولاية إلى ولي عهده وقام خلعه مقام موته.)

وقد خلع معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان – رحمه الله – نفسه من الخلافة لما رأى نفسه عاجزاً عن القيام بمتطلباتها.

ومن قبله خلع الإمام الحسن بن علي – رضي الله عنهما – نفسه من الإمامة محققا نبوءة الرسول r حين قال عنه: (ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين) رواه البخاري.

وقال ابن حجر معقبا على الحديث وعلى خلع الإمام الحسن نفسه: (ومنه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحاً للمسلمين.)”[11]

وبعد ذلك يصير هذا الحاكم – بعد خلع نفسه – مواطناً من مواطني الدولة المسلمة يشارك في بنائها والمحافظة عليها، ويُستعان بخبراته وقدراته في البناء والتنمية.


[1] ) د. محمد عبد القادر أبو فارس. النظام السياسي في الإسلام. صـ43ـ. نقله عن ابن قيم الجوزية.

[2] ) الإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير – تفسير ابن كثير – المجلد الثاني. وقال “إسناده فيه ضعف”.

[3] ) الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي – تاريخ الخلفاء – صـ113.

[4] ) الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي – تاريخ الخلفاء صـ147.

[5]  (عبدالعزيز البدري – الإسلام بين العلماء والحكام صـ101.

[6] ) السيد سابق. فقه السنة (المجلد الأول) صـ213.

[7] ) د. علي أحمد القليصي – فقه العبادات (الجزء الأول) صـ231.

[8]) السيد سابق. فقه السنة (المجلد الأول) صـ206.

[9] ) أنظر النظام السياسي في الإسلام صـ258 وما بعدها.

[10] ) د. محمد عبد القادر أبو فارس. النظام السياسي في الإسلام. صـ260.

[11] ) المصدر السابق صـ272.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى