المبحث الثاني: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بإمام المسلمين (الحاكم) (2)
المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني
سادساً: الواجبات والأعمال
مسؤولية الحاكم
للإمام في صلاة الجماعة مسؤوليات وواجبات، فهو “إمامٌ يقيم للناس صلاتهم التي هي من أحسن ما يعمل الناس، ومعلّمٌ يرشد الناس إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ومفتٍ يوضح للناس أحكام الشريعة، بحسب ما عنده من العلم، إلى غير ذلك من وظائف الإمامة”[1].
وكذلك إمام المسلمين (الحاكم)، فإنه يتحمل مسؤولية كبيرة، وسيُسأل عنها بين يدي الله عز وجل، ففي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله r يقول: “كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، والإمام راعٍ، ومسؤول عن رعيته، …. الحديث.”. وعليه أن يقوم بواجباته كحاكم للمسلمين، من تطبيق للشريعة الإسلامية وتدبير شؤون الأمة المسلمة، وحفظ وحدة المسلمين، ومحاربة الظلم والفساد … إلى غير ذلك من الواجبات.
ولا شك أن مسؤوليته أكبر من مسؤولية من لا سلطان له، فهذا رسول الله r – وهو قدوة للحكام المسلمين – يعلم المسلمين أمور دينهم، ويدير شؤون هذه الأمة، ويتفقد أحوالها، فيحرم الرشوة ويحاربها، حتى لا يتضرر بذلك المجتمع المسلم، فعن أَبِي حُميْد عبْدِ الرَّحْمن بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ t قال: اسْتعْملَ النَّبِيُّ r رَجُلاً مِن الأَزْدِ يقَالُ لَهُ: ابْـنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قـال: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهدِيَ إِلَيَّ، فَقَامَ رسولُ اللَّه r على الْمِنبرِ، فَحمِدَ اللَّه وأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قال: «أَمَّا بعْدُ فَإِنِّي أَسْتعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ على الْعمَلِ مِمَّا ولَّانِي اللَّه، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَت إِلَيَّ، أَفَلا جلس في بيتِ أَبيهِ أَوْ أُمِّهِ حتَّى تأْتِيَهُ إِنْ كَانَ صادقاً، واللَّه لا يأْخُذُ أَحدٌ مِنْكُمْ شَيْئاً بِغَيْرِ حقِّهِ إلاَّ لَقِيَ اللَّه تَعالَى، يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَلا أَعْرفَنَّ أَحداً مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّه يَحْمِلُ بعِيراً لَهُ رغَاءٌ، أَوْ بَقرة لَهَا خُوارٌ، أَوْ شاةً تيْعَرُ» ثُمَّ رفَعَ يَديْهِ حتَّى رُؤِيَ بَياضُ إبْطيْهِ فقال: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» ثلاثاً، متفقٌ عليه.
ولا يكتفي عليه الصلاة والسلام بذلك، بل يتفقد البضائع في السوق بنفسه، فعن أبي هريرة t أن رسول الله r مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني” صحيح مسلم.
وهذا أبو بكر t يرى أن من مسؤوليته – كحاكم مسلم – أن يحفظ هذا الدين، فيعزم على محاربة المرتدين من العرب ومانعي الزكاة، ويقول: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله r لقاتلتهم على منعها) صحيح مسلم.
وكذلك عمر t دَفعهُ استشعاره المسؤولية الملقاة على عاتقه – كحاكم للمسلمين – أن يعدل بين الرعية، فكان الوالي في عين عمر كباقي الرعية غير أنه أكثرهم حملاً، يجري عليه العدل كما يجري على بقية المسلمين. كان إذا اشتكى أحد الرعية من أحد عماله، طلبه للمساءلة، واقتص من عامله إن كان مخطئاً. وقصة القبطي مع ابن عمرو بن العاص معروفة ومشهورة. وكان إذا بعث عاملاً على ولاية يقول: (اللهم إني لم أبعثهم ليأخذوا أموالهم، ولا ليضربوا أبشارهم، من ظلمه أميره فلا إمرة عليه دوني.)
ويسير على دربهما عمر بن عبد العزيز. ولنسمع إلى عطاء بن أبي رباح وهو يصف تفكر عمر بن عبد العزيز في المسؤولية الملقاة على عاتقة بعد أن تولى مقاليد الحكم، يقول: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت عليه وهو في مصلاه تسيل دموعه على لحيته، فقالت: يا أمير المؤمنين، ألشيء حدث؟ قال: (يا فاطمة، إني تقلدت من أمر أمة محمد r أَسْوَدها وأحمرها، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة، فخشيت أن لا تثبت لي حاجة فبكيت.)[2]
وقد حذر النبي r من خيانة العامة والغدر بهم، فهو أعظم الغدر. فعَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِي t أنَّ النبي r قَال: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِواءٌ عِندَ إسْتِه يَوْمَ القِيامةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقدْرِ غدْرِهِ، ألا ولا غَادر أعْظمُ غَدْراً مِنْ أمير عامَّةٍ» رواه مسلم .
كراهية الترفع على الرعية والاحتجاب دونهم
نهى النبي r أن يقوم الإمام يصلي بالناس فوق شيء مرتفع والناس أسفل منه، يقول السيد سابق: “يكره أن يقف الإمام أعلى من المأموم، فعن أبي مسعود الأنصاري قال: (نهى رسول الله r أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه) يعني أسفل منه.”[3]
ويقول الدكتور القليصي: “من السنة أن لا يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين، لما روى (أن حذيفة صلى بالناس في المدائن على دكان[4] فأخذ أبو مسعود بقميصه فجذبه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى فذكرت حين مددتني) رواه الشافعي وأبو داود والبيهقي وإسناده صحيح.”[5]
أما ولاة الأمر فقد حذرهم الشارع الكريم من التعالي على الرعية والاحتجاب دونهم، فقد أمر اللهُ نبيه r بأن يخفض جناحه للمؤمنين وألّا يتعالى عليهم، قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } الشعراء 215، وقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}الحجر88. وفي الحديث أن النبي r قال: «من ولَّاهُ اللَّه شَيئاً مِن أُمورِ المُسلِمينَ فَاحَتجَبَ دُونَ حَاجتهِمِ وخَلَّتِهم وفَقرِهم، احتَجَب اللَّه دُونَ حَاجَتِه وخَلَّتِهِ وفَقرِهِ يومَ القِيامةِ» رواه أبو داود والترمذي.
وكان الخلفاء لا يترفعون على أحد من المسلمين، ولا يحتجبون دون حاجتهم وفقرهم، بل وكانوا يشترطون ذلك على من أرادوا توليته في الأقطار، فهذا عمر t يشترط على ولاته أن لا يغلق بابه دون حاجة المسلمين، قال خزيمة بن ثابت: (كان عمر إذا استعمل عاملاً كتب له واشترط عليه أن لا يركب برذواناً[6]، ولا يأكل نقياً ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات، فإن فعل فقد حلت عليه العقوبة.)[7]
وهذا عمر بن عبد العزيز يسير على نهج أسلافه، فبعد أن تولى الخلافة “رد الجواري إلى أهلهن وبلادهن، ورد المظالم، وألغى المجالس التي أشبهت مجالس الأباطرة وتمسكت بسنن كسرى وقيصر، إلى بساطتها الأولى ووضعها الإسلامي، فنهى عن القيام له، وابتدأ بالسلام وأباح دخول المسلمين عليه بغير إذن.”[8]
“ويخطب في حشد من الغرباء تنادوا إلى دمشق من بلاد شتى: أيها الناس الحقوا ببلادكم، فإني أنساكم عندي أذكركم ببلادكم.. إلا فمن ظلمه إمامه مظلمة فلا إذن له علي – أي لا حجاب بيني وبينه – ومن لا، فلا أرينه .. والله لولا أن أنعش سنة أو أسير بحق، ما أحببت أن أعيش فواقاً.”[9]
تحمّل ما تعجز عنه الرعية
فالإمام في الصلاة يتحمل سهو الصلاة ونقصانها وأي خلل فيها، فإذا كان في صلاة الجماعة نقص أو أي خلل فصلاة المأمومين صحيحة ويتحمل الإمام هذه الصلاة، ففي الحديث: (الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم ارشد الأئمة، واغفر للمؤذنين) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وصححه الألباني،وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإنْ أصَابُوا فَلَكُمْ، وإنْ أخْطئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» قال النووي: رواه البخاري.
وسترة الإمام سترة للمأمومين، “فعن عمرو بن شُعَيب عن أبيه عن جده قال: (هبطنا مع رسول الله r من ثنية أذاخر فحضرت الصلاة، فصلى إلى جدار فاتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بَهْمة تمر بين يديه، فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه). رواه أحمد وأبو داود. وعن ابن عباس قال: (أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، والنبي r يصلي بالناس بمنى، فمررت بين يدي بعض الصف فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك عليّ أحد)[10] رواه الجماعة.”[11]
ويتحمل الإمام عن المأمومين ثمانية أمور ذكرها الناظم في قوله:
ويحمل الإمام عن مأموم | ثمانيـة تعـد في المنـظـوم | |
فاتحة كذا سجود سهو | وسـترة مع القنوت المروي | |
وسمع الله مع السجود في | تـلاوة الإمام سراً فاكتفـي | |
وهكـذا تـلاوة المأموم | خلف الإمام فافهمن منظومي | |
تشهد أول عمن سُبـق | بركعـة من أربع فكن مُحق[12] |
وكذلك إمام المسلمين (الحاكم) يحمل عن المسلمين ما يعجزون عنه (إطعام الفقراء والمساكين، توفير العمل للمحتاجين، عون الغارمين العاجزين عن السداد، انتزاع الحقوق من الظالمين وردها لأصحابها، الدفاع عن المسلمين، … الخ)، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ r قَالَ: “إنّمَا الإِمَامُ جُنّةٌ. يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ. وَيُتّقَىَ بِهِ. فَإنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَعَدَلَ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ. وَإنْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ، كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ” رواه البخاري ومسلم.
يقول الإمام ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: (قوله r: “الإمام جنة” أي كالستر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام ويتقيه الناس ويخافون سطوته، ومعنى يقاتل من ورائه أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم مطلقاً)[13].
وعندما بُويع أبو بكر على الخلافة، قام خطيباً في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ( أما بعد، أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله).[14]
[1] ) فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب – الإمام والمؤذن.
[2] ) الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي – تاريخ الخلفاء صـ187.
[3] ) السيد سابق. فقه السنة صـ211.
[4] ) دكان: مكان مرتفع.
[5] ) د. علي أحمد القليصي. فقه العبادات (الجزء الأول) صـ243.
[6] ) البرذوان: يطلق على غير العربي من الخيل والبغال، عظيم الخلقة، غليظ الأعضاء.
[7] ) الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي – تاريخ الخلفاء صـ104.
[8]) د. عماد الدين خليل – ملامح الإنقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز – نقلاً عن الندوي: رجال الفكر والدعوة في الإسلام صـ28.
[9]) المصدر السابق. صـ73.
[10] ) معاني المفردات: الثنية: الطريق المرتع. وأذاخر: موضع قرب مكة، البهمة: ولد الضأن، يدارئها: يدافعها، ناهزت الاحتلام: أي قاربت البلوغ، الرتع: الرعي.
[11] ) السيد سابق. فقه السنة (المجلد الأول) صـ225.
[12] ) درة الرسائل – رسالة (ماذا تفعل في الحالات التالية) – الشيخ محمد المنجد صـ30.
[13] ) فتح الباري شرح صحيح البخاري للإمام أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي العسقلاني الشهير بابن حجر.
[14] ) الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي – تاريخ الخلفاء صـ56.