قراءة كتاب

المبحث الثالث: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بالفرد المسلم كعضو في جماعة المسلمين (8)

المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني

سادساً: الرقابة على ولي الأمر

لا يقصد بالرقابة – هنا – تتبع العورات وتصيّد الأخطاء وتعقب الزلات من أجل إظهارها وإشهارها والتسميع، فعنْ جُنْدُب بن عَبْدِ اللَّه بنِ سُفْيانَ t قَالَ: قالَ النبيُّ r: «مَن سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّه بِهِ، ومَنْ يُرَاَئِى اللَّه يُرَئِى بِهِ» متفقٌ عليه. بل يقصد بالرقابة ملاحظة الحاكم، ومتابعة أفعاله بغرض تقويمها ونصحه فيها. والرقابة على الحاكم علامة صحة في أي مجتمع إذا قصد بها عملية التقويم والتصحيح والبحث عن الأفضل من المجتمع وأفراد المجتمع، قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران104، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: “والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسُولَ اللَّه r: «مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكراً فَلْيغيِّرْهُ بِيَدهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطعْ فبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلبهِ، وَذَلَكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ» وفي رواية “وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل“.”[1]

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يؤتى أُكُله إلا إذا وجدت المراقبة الفعالة البناءة، وهذا واجب الأمة، يقول الشيخ عبدالمجيد عزيز الزنداني في إحدى محاضراته: “والمراقبة حق مشروع للأمة بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والحقيقة هي ليست حق، وإنما واجب، لأن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وليس حقاً من حقك أن تمارسه أو لا تمارسه. إذا لم تمارسه لعنك الله قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ{78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ{79}} المائدة “[2]

والمراقبة تبدأ باختيار الحاكم وتستمر بالنصيحة له ومقاضاته إن تعدى وظلم، وتنتهي بعزله إن أخل بالشروط.

اختيار الأصلح

من حق المصلين أن يختاروا إمامهم للصلاة، وفق الشروط التي بينها النبي r، ففي الحديث عن أبي مسعودٍ عُقبةَ بنِ عمرٍو البدريِّ الأنصاريِّ t قال: قال رسول اللَّه r: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤهُمْ لِكتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا في الْقِراءَةِ سَواءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كانُوا في الهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِنّاً وَلا يُؤمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، وَلا يَقْعُدُ في بيْتِهِ على تَكْرِمتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ» رواه مسلم. وفي روايةٍ لَهُ: «فَأَقْدمهُمْ سِلْماً» بَدل «سِنًّا»: أَيْ إِسْلاماً. وفي رواية: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤهُمْ لِكتَابِ اللَّهِ، وأَقْدمُهُمْ قِراءَةً، فَإِنْ كَانَتْ قِراءَتُهمْ سَواءً فَيَؤُمُّهم أَقْدمُهُمْ هِجْرةً، فَإِنْ كَانوا في الهِجْرَةِ سوَاء، فَلْيُؤمَّهُمْ أَكْبرُهُمْ سِناً». فهذه هي الشروط التي ينبغي للمسلمين أن يختاروا إمامهم للصلاة وفقها.

يقول الدكتور أحمد القليصي: “ولو خرج الإمام من الصلاة ولم يستخلف أحداً، يجوز للمأمومين أن يقدموا واحداً بالإشارة أو يتقدم أحدهم بنفسه.)([3])

وقد فعل الصحابة ذلك عندما غاب رسول الله r.  فقد ذهب النبي r – ذات يوم – إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، وحانت الصلاة، فاختار الصحابة من بينهم أبا بكر ليصلي بهم.

وإذا كان من حق الناس أن يختاروا من بينهم من يؤمهم في صلاة الجماعة، فإن من حقهم أن يختاروا من يؤمهم ويحكمهم في أمور دنياهم. فالإسلام جعل الأمة هي صاحبة الحق في اختيار من يحكمها، وفق الشروط التي ذكرها العلماء للإمام أو الحاكم. يقول الدكتور محمد أبو فارس: “وجمهور أهل السنة والمعتزلة والخوارج وبعض الشيعة وجماعة من أهل الحديث يرون أن الإسلام قرر أن الأمة هي صاحبة الحق في اختيار الخليفة أو الإمام بالطريقة التي يتحقق من خلالها مبدأ الشورى. كما قال تعالى: (وشاورهم في الأمر)”[4]

وللأمة أن تختار إمامها بالطريقة التي يتم الاتفاق عليها، بشرط أن يتحقق فيها مبدأ الشورى الذي أراده الله سبحانه، وجعله حقاً مشروعاً لهذه الأمة. يقول الدكتور أبو فارس: “ونبادر إلى القول بأن الإسلام لم يعتمد طريقة معينة لاختيار رئيس الدولة ويلزم الدولة بها، حتى يحرم عليها أن تمارس غيرها، وكل الذي جاء هنا أن الأمة تختار رئيس الدولة إذا توافرت فيه شروط معينة، وأن يتحقق في هذا الاختيار العدل والشورى. ولا يهم بعد ذلك الأسلوب وطريقة الاختيار.”[5]

ولو نظرنا إلى كيفية اختيار الخلفاء الراشدين لوجدنا أنها بمجملها لا تعدوا أن تكون وفق مبدأ الشورى. فأبو بكر t تم اختياره بعد التشاور بين المهاجرين والأنصار في سقيفة أبي ساعدة. وعمر t تم تعيينه من قبل أبي بكر بعد مشاورة أبي بكر لكثير من كبار الصحابة. وعثمان t كان اختياره – من بين ستة مرشحين لهذا المنصب – بالشورى التي أجراها عبد الرحمن بن عوف مع كثير من الصحابة، حتى قيل أنه استشار النساء في خدورهن. وعلي t تم اختياره من قبل أهل الحل والعقد من الصحابة في المدينة. وعمر بن عبد العزيز – خامس الخلفاء – تم تعيينه بدون شورى المسلمين، لكنه قام ورد الحق إلى أصحابه، وأكد على حق الأمة في اختيار حكامها فقام – بعد توليه الخلافة – خطيباً في المسلمين: “أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين. وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم”، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فتول أمرنا باليُمْن والبركة.[6]

والأمة التي تفرط في حقها لا تعدوا أن تصير أداة في يد الحاكم الظالم، يستمد منها شرعية مزيفة، ويستقوي بها على خصومه. وبذلك يصير أمرها مملوكاً لهذا الحاكم، بعد أن كانت تملك هي أمره – أمر توليته ومحاسبته وخلعه – فيستذلها ويحتقرها ويستخف بها، لأنها رضيت بذلك. قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} الزخرف54. يقول الإمام الشوكاني: “{فاستخف قومه فأطاعوه} أي حملهم على خفة الجهل والسفه بقوله وكيده وغروره، فأطاعوه فيما أمرهم به وقبلوا قوله، وكذبوا موسى. {إنهم كانوا قوما فاسقين} أي خارجين عن طاعة الله. قال ابن الأعرابي: المعنى فاستجهل قومه فأطاعوه بخفة أحلامهم وقلة عقولهم”[7]. ويقول سيد قطب – رحمه الله: “واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه; فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها; ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين!

ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزِنون بميزان الإيمان. فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح. ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} الزخرف54.”[8]

النصيحة لأئمة المسلمين

قد يخطئ الإمام في صلاته بالناس، وقد ينسى، وقد يلتبس عليه في قراءته للقرآن أثناء الصلاة الجهرية. فعلى المصلين أن لا يقفوا موقف المتفرج، ينظرون إلى مثل هذه الأعمال تصدر من الإمام، ولا يكون لهم دور في تقويمها أو نصح الإمام فيها. لذلك شُرع للمصلين أن ينبهوا الإمام إذا – أخطأ في صلاته – بالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء، وأن يفتحوا عليه فيذكروه إذا نسي أو التُبس عليه في قراءته للقرآن. فعن سهل ابن سعد الساعدي عن النبي r: “من نابه شئ في صلاته فليقل: سبحان الله، إنما التصفيق للنساء، والتسبيح للرجال” رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وعن ابن عمر أن النبي r صلى صلاة فقرأ فيها فالتُبس عليه فلما فرغ قال لأبي: “أشهدت معنا؟” قال: نعم. قال: “فما منعك أن تفتح علي؟” رواه أبو داود وغيره ورجاله ثقات.

وينبغي على المصلين أن ينبهوا الإمام إن سها في صلاته، فإن لم يتبين له مقصودهم استخدموا من الوسائل ما يوصل له مقصودهم. يقول الشيخ محمد المنجد: “إذا سها الإمام في الصلاة وترك ركناً وجعل المأمومون يسبحون وهو لا يفهم مقصودهم ولا يدري أين الخطأ وينتقل إلى أركان ليس بينها الركن المتروك: فلأهل العلم عدة أقوال في إفهامه، من أمثلها أن يجهروا بالذكر الخاص بالركن المفقود فإن كان ركوعاً قالوا: سبحان ربي العظيم، وإن كان سجوداً قالوا: سبحان ربي الأعلى، وإن كان الجلسة بين السجدتين قالوا: رب اغفر لي وهكذا. المغني مع الشرح الكبير 1/707.”[9]

جعل الله ارتكاب الأخطاء صفة مقرونة بابن آدم، فالغرائز والطباع البهيمية التي جُبل عليها الإنسان تميل به إلى الغي والعصيان، وتشرع هذه الطباع في الظهور مع امتلاك الانسان لسلطة أو قوة أو مال تمكنه من إشباع هذه الغرائز، وهذا ما يفسر جنوح كثير من الحكام وأصحاب السلطة إلى البغي والظلم والطغيان. من أجل ذلك أوجب الإسلام على المسلمين أن يؤدّوا النصيحة للحاكم المسلم، وأن ينبهوه إن غفل ويبصّروه إن جهل. ففي الحديث عن أَبِي رُقيَّةَ تَميمِ بنِ أَوْس الدَّارِيِّ t أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «للَّه وَلِكِتَابِهِ ولِرسُولِهِ وَلأَئمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رواه مُسْلم. “والنصيحة لأئمة المسلمين تعني إرادة الخير لهم بإرشادهم وتحذيرهم من الشر وتبيانه لهم، إذ النصيحة في المفهوم الإسلامي تعني إرادة الخير للمنصوح لهم.”[10]

ولا خير في أمة لا تنصح لأئمتها، كما أنه لا خير في حاكمٍ لا يقبل النصح من أمته. قام أحد الناس ينصح عمر بن الخطاب فقال له: اتق الله يا عمر. فهمّ به بعض أصحاب عمر، فقال عمر t: “دعوه، فلا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها”.

وكتب سفيان الثوري لهارون الرشيد بعد أن تولى الخلافة: “من أين لك يا هارون أن تغدق العطاء على الناس، وهو حق الأرملة والمسكين والفقير؟ وما جوابك لربك غداً إذا جاءك هؤلاء يخاصمونك بين يديه، ويقولون: يا ربنا سل عبدك هارون، فكم منعنا حقنا وأعطاه من لا يستحقه؟” فبكى هارون.

وحين يتساهل الناس بهذا الواجب، يموج المجتمع بالشر والآثام، ويكثر الطواغيت، ويظهر فرعون في كل أمةٍ لا يقوم أفرادها بواجب النصيحة للحاكم. عَنْ حذيفةَ t أَنَّ النبي r قال: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بالْمعرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّه أَنْ يَبْعثَ عَلَيْكمْ عِقَاباً مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجابُ لَكُمْ» رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ. وذكر النبيُ r بني إسرائيل والنقص الذي دخل عليهم وسبب لعنهم ثم قال: «كَلاَّ، وَاللَّه لَتَأْمُرُنَّ بالْمعْرُوفِ، وَلَتَنْهوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ولَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، ولَتَأْطِرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْراً، ولَتقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْراً، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن.

ولقد جعل النبيُ r النصيحةَ للحاكم وقول الحق له من أفضل الجهاد. فعنْ أَبِي سَعيد الْخُدريِّ t عن النبيِّ r قال: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عندَ سلْطَانٍ جائِرٍ» رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ. وعنْ أَبِي عبدِ اللَّه طارِقِ بنِ شِهابٍ الْبُجَلِيِّ الأَحْمَسِيِّ t أَنَّ رجلاً سأَلَ النَّبِيَّ r، وقَدْ وَضعَ رِجْلَهُ في الغَرْزِ: أَيُّ الْجِهادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةُ حقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جائِر» رَوَاهُ النسائيُّ بإسنادٍ صحيحٍ.

وأداء النصيحة للحاكم صمّام أمان للمجتمع من الهلاك، فمهما كثر الصالحون المقتصر صلاحهم على أنفسهم فلن يكون في ذلك حماية أو صون لهم ولا لمجتمعهم من الهلاك، وقد وضح النبي r ذلك حينما سُئل: «أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم. إذا كثر الخبث» متفقٌ عليه، وقصة العابد الزاهد من بني إسرائيل التي وردت في الأثر معروفة، فهو لم يتمعر وجهه لمعصية ارتُكبت قط، فحينما أذن الله بهلاك القرية – التي هو من أفرادها – وقال الملَك “يا رب! إن فيها عبدك فلان لم يعصك قط” أمر الله الملَك بأن يبدأ به فقال: “به فابدأ لأنه لم يتمعر وجهه فيّ قط“. أما إذا كان الناس في مجتمع ما صالحون في أنفسهم مصلحون لغيرهم – والنصيحة من وسائل إصلاح المجتمع – فإن الله قد تكفّل بعدم هلاك هذا المجتمع. قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} هود117.

وفي إعطاء النصيحة للحاكم المسلم عون له على نفسه، وحرص على أداء الأمانة التي ألقيت عليه، والوفاء بمسؤولياته. قال عمر بن الخطاب t عندما تولى الخلافة: “اتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولّاني الله من أمركم”.

مقاضاته إن تعدى وظلم

إذا كان الإمام يطيل في الصلاة، ولا يلتزم بما ورد عن النبي في الصلاة بالناس، من استيفاء لحق الصلاة، ومراعاة للمصلين والتخفيف بهم، جاز للمصلين – بعد أن يقوموا بنصحه – أن يشكوه. فعن جابر قال: كان معاذ يصلي مع رسول الله r صلاة العشاء ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم، فأخر النبي r فصلى معه ثم رجع إلى قومه فقرأ سورة البقرة، فتأخر رجل فصلى وحده فقيل له: نافقت يا فلان، قال: ما نافقت، ولكن لأتين رسول الله r فأخبره: فأتى النبي r فذكر له ذلك فقال: “أفتان أنت يا معاذ، أفتان أنت يا معاذ، اقرأ سورة كذا وكذا” رواه البخاري ومسلم.

وللأمة الحق في مقاضاة حاكمها، إن لم يلتزم بما أوجبه الله عليه من واجبات، ولم يعط كل ذي حق حقه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء59.

يقول الشيخ عبد المجيد عزيز الزنداني، وهو يعدد حقوق الأمة السياسية: “من حق الشعب مقاضاة الحاكم إذا ظلم أو اعتدى، وذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء59. {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أي مع من؟ مع الحاكم. نتحاكم معه إلى شرع الله. لأنه لا يوجد أحد فوق شرع الله، ولا يوجد أحد فوق الدين، ولا يوجد أحد كلامه فوق كلام الله، فالكل تحت شرع الله، والكل يخضع للشريعة، من الخليفة إلى آخر إنسان. فإذاً.. مقاضاة الخليفة حق، بل واجب عند وقوع الخلاف أن يقع التقاضي وعلى الحاكم أن يستجيب”[11]. ويقول عبدالعزيز البدري في كتابه (الإسلام بين العلماء والحكام): “ثم إن الله تعالى أبقى للأمة بمجموعها حق محاسبة هذا الرجل الذي تولى السلطان عنها، وأولته أمرها، إن قصّر في رعاية شؤونها، أو حاد عن أحكام الإسلام في تطبيقه ونشره.

ولم يكتف الإسلام بجعل هذه المحاسبة حقاً للأمة، تكون مخيرة في القيام به أو تركه، بل جعله فرضاً عليها… “[12]

ولقد ترافع الإمام علي t مع اليهودي – وهو أحد رعاياه – إلى القضاء، وقام القاضي باستجواب الطرفين واستدعاء الشهود والنظر في الدعوى المقدمة والرد عليها، ثم حكم بما رآه حقاً وفق شريعة الله، فكان الحكم لصالح اليهودي، ولم يعترض الإمام علي t على هذا الحكم بل رضي به وسلم.

وللأسف نجد أن الغرب اعترف بهذا الحق للرعية، فصار الأمر عندهم من الأمور المسلّم بها، فتجد الرئيس والمرؤوس يقفان جنباً إلى جنب أمام القضاء، ويرضى الطرفان بالتحاكم إلى قوانين وضعوها هم، قوانين وضعية بشرية، مليئة بالخلل والعيوب، لكنهم ارتضوها حكماً بينهم، والتزموا بها واستسلموا لها. أما نحن المسلمون – على الرغم من أننا ارتضينا كتاب الله دستوراً لنا – إلا أننا لم نلتزم بما جاء به ولم نسلّم لحكمه. قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} النساء65. يقول سيد قطب: “وأخيراً يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم. إذ يقسم الله – سبحانه – بذاته العلية، أنه لا يؤمن مؤمن، حتى يحكم رسول الله r في أمره كله. ثم يمضي راضياً بحكمه، مسلماً بقضائه. ليس في صدره حرج منه، ولا في نفسه تلجلج في قبوله.. {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} النساء65. ….

ثم يقول: وإذا كان يكفي لإثبات «الإسلام» أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله.. فانه لا يكفي في «الإيمان» هذا، ما لم يصحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان، في اطمئنان! هذا هو الإسلام.”[13]

وعلى الحاكم أن يقبل أن يقف أمام القضاء، وأن يُحاسب على أفعاله، لأن الله الذي أمر المسلمين بالطاعة له، أمَرَه بالتحاكم إلى الله ورسوله إن وجد التنازع، قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء59. يقول عبدالعزيز البدري: “والإسلام أوجب على الحاكم الذي يتولى أمر المسلمين أن يسمع لمن يحاسبه، وأن يفسح صدره لذلك، كما أمره أن يخضع لهذه المحاسبة إن كانت موافقة لأحكام الإسلام، ومنعه من أي عقاب يفرضه على أي فرد من أجل هذه المحاسبة ولو جاءت شديدة والقول فيها غليظاً”[14].

والخلفاء الراشدون كانوا يقبلون أن يحاسبوا على أعمالهم. فقد قبل عمر t من أحد الصحابة أن يسأله ويحاسبه عن كيفية حصوله على ثوبين في حين أن بقية المسلمين لم يحصلوا إلا على ثواب واحد لكل واحد منهم. وكذلك علي t قبل أن يتحاكم مع يهودي إلى القضاء.

وقام معاوية بن أبي سفيان يوماً على منبره، “بعد أن قطع بعض الأعطيات المالية عن أفراد المسلمين. فقال: اسمعوا وأطيعوا، فقام إليه أبو مسلم الخولاني ليحاسبه عن هذا التقصير الخاطئ، فقال: لا سمع ولا طاعة يا معاوية، قال: ولمَ يا أبا مسلم؟ فقال: يا معاوية كيف تمنع العطاء وإنه ليس من كدّك ولا من كدّ أبيك ولا كدّ أمك. فغضب معاوية ونزل عن المنبر، وقال للحاضرين مكانكم، وغاب ساعة عن أعينهم ثم خرج عليهم وقد اغتسل، فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني وإني سمعت رسول الله r يقول: (الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحد فليغتسل) وإني  دخلت فاغتسلت، وصدق أبو مسلم أنه ليس من كدّي ولا من كدّ أبي، فهلموا إلى أعطياتكم.”[15]

عزله إن أخل بالشروط

إذا رأى المصلون من إمامهم ما يخل بالصلاة، وقاموا بنصحه فلم ينتصح، فعليهم أن يمنعوه من إمامتهم في الصلاة. روى أبو داود وابن حبان عن السائب بن خلاد أن رجلا أمّ قوما فبصق في القبلة ورسول الله r ينظر إليه، فقال رسول الله r: “لا يصلي لكم“. فأراد بعد ذلك أن يصلي بهم، فمنعوه وأخبروه بقول النبي r، فذكر ذلك للنبي فقال: “نعم، إنك آذيت الله ورسوله“.

ومن حق الرعية أن تعزل الحاكم، إن أخل بالشروط المتفق عليها ولم يقبل النصح في ذلك ولم يرضى التحاكم إلى شرع الله، أو رأت منه تعطيلاً لشرع الله وعدم العمل بمنهج الله، وسلباً لحقوقها ومصادرةً لحرياتها، وإفساداً في الأرض بعد إصلاحها، وإصراراً على المعصية، فلها الحق – بعد تقديم النصح له ومقاضاته – في عزله. ويجب على الرعية إجباره على التنحي عن الحكم بالطرق السلمية المشروعة. وقد قرر هذا رسول الله r في خطابه إلى أهل البحرين حينما ولى عليهم العلاء بن الحضرمي حيث جاء فيه: “وأنا أشهد الله تعالى على من وليته شيئاً قليلاً أو كثيراً من أمور المسلمين فلم يعدل فيهم، إنه لا طاعة له، وهو خليع مما وليته وقد برئت ذمم الذين معه من المسلمين“. وإن كان هذا في الولاية المحدودة، فهو ينطبق على الولاية العامة، والحاكم العام.

يقول الشيخ عبدالمجيد الزنداني: “ومن حق الشعب عزل الحاكم، وهو مستنبط ومستنتج من مبدأين سابقين[16]، وهما: أن الشعب صاحب الحق في التعيين، فهو الذي عقد، فإذا أخل الحاكم بالعقد وشروط العقد يصبح من حق الشعب أن يعزله، أو يخلعه. أو عجز، فهو في هذه الحالة أصبح عاجزاً لا يستطيع أن يقوم بالواجب، وقد تكلم العلماء في هذا وقالوا: إذا لم يقم بالشروط الواجبة على الحاكم فيجب عزله، لكن اشترطوا ألا يؤدي هذا العزل إلى فتنة، تُراق فيها الدماء، ويأتي منكر أعظم من المنكر الذي كان يُشتكى منه. لكن الفقه السياسي العالمي، ومن ثم الإسلامي وصل إلى طريقة نافعة جداً لا تحوجنا عند عزل الحاكم إلى حرب، ولا إلى فتنة، ولا إلى قتال، وهي ألا يولَّى الحاكم مدى الحياة، وإنما يولَّى لفترة محدودة، فإذا انتهت فترة حكمه يسقط تلقائياً عن الحكم، وأصبح هو الخارج عن نظام الدولة وعن العقد الذي جرى بين الناس وبينه وهو الدستور.”[17] واستأنس الشيخ على مبدأ التوقيت لولي الأمر بسابقة وقعت في عهد الصحابة – رضوان الله عليهم – وهي: “أن عمر بالخطاب t أرسل جيوشاً لمحاربة الروم في اليرموك، فاجتمع أحد عشر جيشاً، ولكل جيش قائد، فتشاوروا في الأمر، من الذي يقود الجيش. فقالوا: تكون بيننا مداولةً. فقبلوا ذلك.” وذكر الشيخ أنه ناقش هذه الحادثة مع الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – وسأله: هل قبول الصحابة بهذا يمثل سابقةً لنا نستأنس بها على تحديد فترة لولي الأمر؟ فقال الشيخ ابن باز: يمكن ذلك.


[1] ) الإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير. تفسير ابن كثير المجلد الأول صـ391.

[2] ) من محاضرة له عن الحقوق السياسية للأمة.

[3] ) د. علي أحمد القليصي – فقه العبادات (الجزء الأول) صـ231.

[4] ) د. محمد عبد القادر أبو فارس. النظام السياسي في الإسلام. صـ227.

[5] ) المصدر السابق صـ228.

[6] ) د. عماد الدين خليل – ملامح الإنقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز صـ65.

[7] ( محمد بن علي الشوكاني – فتح القدير – الجزء الرابع صـ537.

[8] ) سيد قطب. في ظلال القرآن. الجزء 5 صـ3194.

[9] ) درة الرسائل – رسالة (ماذا تفعل في الحالات التالية) – الشيخ محمد المنجد صـ33.

[10] ) د. محمد عبد القادر أبو فارس. النظام السياسي في الإسلام. صـ207.

[11] ) من محاضرة له عن الحقوق السياسية للأمة.

[12] ( عبدالعزيز البدري – الإسلام بين العلماء والحكام صـ68.

[13] ) سيد قطب. في ظلال القرآن. الجزء 2 صـ696.

[14]  (عبدالعزيز البدري – الإسلام بين العلماء والحكام صـ71.

[15]  (المصدر السابق صـ72.

[16] ) ذكرهما في المحاضرة.

[17] ) من محاضرة له عن الحقوق السياسية للأمة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى