قراءة كتاب

المبحث الثالث: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بالفرد المسلم كعضو في جماعة المسلمين (7)

المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني

خامساً: طاعة ولي الأمر

نظم الإسلام العلاقة بين ولي الأمر ورعيته، بحيث لم يترك ثغرة لشياطين الانس والجان ليدخلوا منها، وجعل من متطلبات المجتمع المثالي وجود علاقة إيجابية بين الحاكم ورعيته، وبين من ولاه الله على جماعة من الناس مهما كان عددهم وبين رعيته[1]، وعن ابن عمرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: «كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ  مسئولٌ عنْ رعِيَّتِهِ، والأَمِيرُ رَاعٍ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أَهْلِ بَيْتِهِ، والمرْأَةُ راعِيةٌ على بيْتِ زَوْجِها وولَدِهِ ، فَكُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسئولٌ عنْ رعِيَّتِهِ» متفقٌ علي، ولهذا الغرض وضع الإسلام تشريعات وضوابط تنظم هذه العلاقة. وفي صلاة الجماعة إيحاءات لمثل هذه العلاقات.

ففي صلاة الجماعة تجب على المأمومين متابعة إمامهم وطاعته في كل ما يفعله في الصلاة من حركات. فإذا كبّر الإمام كبّر معه المصلون، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا سلّم سلّموا. يقول السيد سابق – رحمه الله: “تجب متابعة الإمام وتحرم مسابقته: لحديث أبي هريرة أن رسول الله r قال: “إنّما جُعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون” رواه الشيخان، وفي رواية أحمد وأبي داود: (إنما الإمام ليؤتم به: فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد).”[2]

بل ويجب عليهم متابعة الإمام حتى في سجود السهو، فإذا سجد الإمام سجدة السهو بعد أن سلم وقام المأموم إلى الركعة التي فاتته، فإنه يلزمه أن يسجد بعد الانتهاء من صلاته متابعةً للإمام. يقول الشيح محمد المنجد في كتابه (ماذا تفعل في الحالات التالية) “إذا سلم الإمام فقام المأموم ليتم ما فاته فإذا بالإمام يسجد للسهو بعد السلام: فإن كان المأموم لم ينتصب قائماً فإنه يرجع ويسجد للسهو مع إمامه، وإن انتصب قائماً فإنه لا يرجع فإذا أتم صلاته سجد للسهو الذي فاته. ودليل هذه المسألة ما روى المغيرة بن شعبة عن رسول الله r أنه قال: “إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس فإن استوى قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو” رواه أبو داود رقم 1036 وهو في السلسلة الصحيحة 321. المغني مع الشرح الكبير 1/697.” [3]

ولا يجوز لأحد من المأمومين أن يخالف ذلك أو أن يسبق الإمام، وقد جاء التحذير من ذلك، فعن أنس قال: قال رسول الله r: “أيها الناس! إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف[4]. رواه أحمد ومسلم.

وقد شنّع النبي r هذا الفعل، ومقته وجعله كأنه خروج على الإنسانية، فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: “أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار أو يحول الله صورته صورة حمار” رواه الجماعة.

والذي لا يتابع إمامه في الصلاة، ويسبقه في السجود والركوع، فإنما يحركه الشيطان، ففي الحديث: (الذي يركع ويسجد قبل الإمام، إنما ناصيته بيد الشيطان) رواه البزار والطبراني وإسناده حسن.

وكما شدد الإسلام على الالتزام بهذا النظام داخل المسجد، أكد على أهمية طاعة ولي الأمر خارج المسجد، لضمان سير الحياة في المجتمع بطريقة سليمة وآمنة، وجاءت الآيات والأحاديث تأمر المسلمين بطاعة ولاة الأمور، وتحذر من مخالفة هذا الأمر. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء 59. وطاعة ولي الأمر عند المسلمين دِين، والالتزام بها طاعة لله ولرسوله r، ففي الحديث عن أبي هريرة t قال: قال رسُولُ اللَّهِ r: «مَنْ أَطَاعَني فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه، وَمَنْ عَصَاني فَقَدْ عَصَى اللَّه، وَمَنْ يُطِعِ الأمِيرَ فَقَدْ أطَاعَني، ومَنْ يعْصِ الأمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي» متفقٌ عليه.

وبالسمع والطاعة يحصل الاستقرار في المجتمع المسلم، ويمتلك المسلمون عنصر القوة للتغلب على الأعداء، ويهابهم أعداؤهم. فحين أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفي إلى النبي r للتفاوض في وقعة الحديبية نظر عروة في وجوه الصحابة وعلاقتهم برسول الله ومبادرتهم لطاعته، فرجع إلى أصحابه وقد تملكته المهابة من هذا الموقف، فقال: “أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.”[5] ويقول الدكتور محمد السيد الوكيل: “السمع والطاعة من أهم حقوق القيادة في كل زمان ومكان، إذ بغير السمع والطاعة لا يمكن الضبط والربط، كما لا يمكن تكوين جيش رادع لعدوه، يدافع عن وطنه. وبغير السمع والطاعة تكون الفوضى التي لا نظام فيها، والاضطراب الذي لا استقرار فيه، ولهذا قال r: “اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة” رواه البخاري.”[6]

والطاعة لا علاقة لها بقوة الحاكم أو ضعفه، ولا يدفع المسلم إلى بذلها خوف أو طمع، بل هي طاعة لله يتقرب بها المسلم إلى خالقه سبحانه لينال رضاه. يقول الدكتور العليمي: “والسمع والطاعة لا يكونان لوجاهة الأمير، أو الخوف منه، وإنما السمع والطاعة لكل أمير يلي أمر المسلمين ما دام يقودهم بكتاب الله وسنة رسوله r، ففي حديث أم الحصين تقول: سمعت رسول الله r يقول: “إذا أمّر عليكم عبد مجدع أسود، يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا وأطيعوا” رواه مسلم.”[7]

ولا ينبغي ان نتحدث عن السمع والطاعة بحديث منفرد، ونعزله عن الضوابط والتشريعات الأخرى التي لا بد أن يفقهها المسلم سوء أكان هو الراعي أو كان أحد الرعية. فهذا مخالف لما يريده الاسلام، وبل ويصب في صالح الحاكم الظالم، ويؤسس للطاغوتية والفرعونية. ولقد جاء الاسلام بتشريعات توازي بين ما هو للفرد وما هو عليه، والحديث عن الواجبات دون الحقوق أو العكس أمر غير مقبول في الإسلام. ولهذا لا بد من ذكر بعض هذه الضوابط التي ينبغي أن ترافق فِهم المسلم لطاعة ولي الأمر.

ومن هذه الضوابط ما يلي:

لا طاعة إلا في المعروف

فمتابعة الإمام لا تكون إلا فيما يصح من الصلاة، أما فيما يخالف ما شرعه النبي r في الصلاة، أو فيما يبطل الصلاة فلا يجوز للمأمومين متابعة الإمام في ذلك. يقول الدكتور القليصي: “ولا يجوز للمأموم أن يتابع إمامه فيما يبطل عمدة الصلاة، كأن يقوم معه إلى ركعة زائدة على الواجب، أو يعمل عملاً يبطل الصلاة كالعمل الكثير أو الكلام ونحو ذلك.

وكذلك الإمام المحدِث حدثاً أكبر أو أصغر فلا يجوز متابعته بإجماع العلماء، هذا إذا كان الحدث معلوماً. فمن علم بحدثه وتابعه فصلاته باطلة باتفاق العلماء.”[8]

” وأما المأموم الذي تيقن أن الإمام زاد ركعة-مثلاً- فلا يجوز له أن يتابعه عليها، وإذا تابعه عالماً بالزيادة، وعالماً بأنه لا تجوز المتابعة بطلت صلاته. أما من لم يعلم أنها زائدة فإنه يتابعه، وكذلك من لا يعلم الحكم”[9]

وكذلك إذا رأى المأموم من إمامه ما يخل بالصلاة ويبطلها، فعليه أن ينبهه، فإن لم يستجب فلا يجوز له أن يواصل الصلاة معه لأنه علم أن صلاة الإمام غير صحيحة، يقول الشيخ محمد المنجد: “إذا كان في صلاة الجماعة وراء الإمام فرأى عورة الإمام غير مستورة لشق في ثوبه أو كان الثوب رقيقاً شفافاً فإن أمكنه أن يتقدم فيسترها أو يغطيها بشيء فليفعل وإلا فعليه أن ينصرف من صلاته ويخرج فينبه الإمام كأن يقول له غط العورة أو احفظ ما تكشف منها ولا يجوز له السكوت ومواصلة الصلاة لأنه علم أن صلاة الإمام غير صحيحة وائتمامه به غير صحيح.”[10]

وكذلك الحال مع ولي أمر المسلمين، فطاعة الحاكم لا تكون إلا فيما ليس فيه مخالفة لشرعة الله. أما في معصية الخالق فلا طاعة لأحد – أياً كان منصبه، ففي الحديث: “إنما الطاعة في المعروف” رواه مسلم. وقد نهى الله المؤمنين عن طاعة من يخالف شرع الله بالإفساد في الأرض أو بإتباع هواه، قال تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ(151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} الشعراء 152، وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} الكهف 28.

يقول الدكتور أحمد العليمي: “ولكن هذا المفهوم فقدَ دلالاته عند كثير من المسلمين، فهم بين مفرط ومغال ومقتصد فيه. فقومٌ بالغوا فيه، فكانت الطاعة عندهم المبالغة في الانصياع والتسليم للحق والباطل…، وقومٌ ولّوا الأدبار فلم يطيعوا أمراً …، وقومٌ رأوا الطاعة والانضباط قاصرين إلا فيما يرون، والالتزام فيما عليه يوافقون ..”[11]

فينبغي للمسلم إن طُلب منه أمر أو أُمر بفعل شيء أن ينظر في هذا الأمر، فإن لم يكن فيه معصية أنفذه وإلا لا طاعة في معصية الله. يقول الشيخ محمد المنجد: “إذا أُمر الرجل في وظيفته بأمر، فعليه أن ينظر فإن كان الأمر ليس فيه معصية لله فإنه يفعل ما أمر به، أما إن كان في الأمر معصية فلا يطع حينئذ وإلا كان مشاركاً في الإثم والوزر، قال عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لبشر في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) الحديث في البخاري الفتح 13/121، وأحمد 1/94 والسياق من السلسلة الصحيحة رقم 181. وقال الله تعالى: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا).”[12]

يقول الدكتور الوكيل: “وليست الطاعة عندنا عمياء، بل هي طاعة مبصرة رشيدة تصدر عن اقتناع وبصيرة. فأيما أمير حاول زج جماعة في أمر لا يتفق مع قواعد الشرع والعقل، فأمره مردود عليه.”[13]

والمعروف الذي جُعلت الطاعة فيه هو ما يُعرف بالعقل أو حَسّنه الشرع. “قال الراغب: والمعروف: اسم لكل فعل يُعرف بالعقل أو الشرع حسنه، وضده المنكر، وهو ما ينكر بهما.

وقال: الجرجاني: المعروف هو: كل ما يحسن في الشرع.

قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران104)”[14]

وطاعة ولاة أمور المسلمين ليست مطلقة، بل هي مقيده بقيود وشروط. يقول الدكتور أبو فارس: “والإسلام حين أوجب على الرعية أن تطيع ولاة الأمور فيها، لم يجعل هذه الطاعة مطلقة من كل قيد، ذلك لأن الطاعة المطلقة تؤدي إلى الحكم الفردي الديكتاتوري المستبد، ومن ثم تمسح شخصية الأمة وتتلاشى. وهذا ما يأباه الإسلام ويرفضه رفضاً قاطعاً.

لهذا فقد أوجب الإسلام على الرعية أن تطيع أولي الأمر فيها ضمن دائرة معينة، وحدود معلومة وقيود وشروط لا بد منها.

ومن هذه القيود والشروط:

1) أن يكون ولي الأمر مطبقاً للشريعة الإسلامية: فإذا لم يكن مطبقاً للشريعة الإسلامية فلا تجب طاعته، وعلى هذا فلا تجب طاعة الأمراء والحكام الذين يرفضون تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء59.

قال ابن حجر في فتح الباري بشرح صحيح البخاري 16/228: (ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية لما قال له: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}؟ فقال: له: أليس قد نزعت عنكم؟ يعني الطاعة، إذا خالفتم بقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.

وقال القرطبي: أعاد الفعل في قوله: {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} إشارة إلى استقلال الرسول r بالطاعة، ولم يعد في أولي الأمر، إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته، ثم يبين ذلك بقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}، كأنه قيل فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله.

وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال عن علي بن أبي طالب t قال: حقٌ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقٌ على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا.

2) أن يحكم بالعدل بين الناس: فإذا قاموا بهذا الواجب فقد وجبت طاعتهم، وإذا ظلموا وعدوا وبغوا وجاروا وعسفوا فلا تجب طاعتهم. وعلى هذا فلا تجب طاعة الأمراء الجائرين، فالجور معصية، والجائر عاصٍ لله تعالى، والرسول r يقول: “لا طاعة لمن لم يطع الله” رواه الإمام أحمد عن أنس، وهو صحيح، مختصر شرح الجامع الصغير 2/265.

قال الفخر الرازي في تفسيره: (اعلم أنه تعالى لما أمر الرعاة والولاة بالعدل في الرعية أمر الرعية بطاعة الولاة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} الآية 59 من سورة النساء، وهو يشير إلى الآية التي قبل هذه الآية وهي: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}النساء58.

3) ألا يأمر الناس بمعصية: فالأصل في الحاكم المسلم أن يأمر الناس بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وينشر فيهم الفضائل، ويحارب الرذائل، فإذا فعل هذا فقد وجبت طاعته، وحرمت معصيته.

أما إذا أمر الحاكمُ الرعية أو فرداً من أفرادها بمعصية من المعاصي الظاهرة البينة، كشرب الخمر وتعاطي الربا والسفور والاختلاط فيحرم على الأمة طاعته وتنفيذ أمره. فهذه معاصٍ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ولو أجيزت الطاعة في المعصية لكان هناك تناقض، إذ لا يعقل أن يحرم الشارع شيئاً ثم يوجبه.”[15]

ثم يلخص الدكتور أبو فارس هذا الأمر فيقول: “إن الإسلام يعتبر الطاعة من الرعية لولاة الأمور فرضاً من الفروض وقاعدة من قواعد الحكم في الإسلام، لا تستقيم الحياة السياسية إلا بها، ولكن وجوب الطاعة للأمراء ليس مطلقاً بل هو مقيد بتطبيق الشرع الإسلامي وإقامة العدل بين الناس، وألا يأمروا رعاياهم بمعصية.”[16]

وعلى هذا الأساس سار الصحابة – رضوان الله عليهم، ومن بعدهم التابعين. فهذا عمر بن عبد العزيز يُعلّم ولاته هذا الأمر، ويبين لهم أنه لا طاعة له عليهم إلا في المعروف، فإذا جاءهم ما يخالف الشرع فعليهم أن يرفضوه. يكتب – رحمه الله – لأحد ولاته فيقول له: (إذا جاءك كتاب مني على غير الحق فاضرب به الأرض).[17]

وهكذا نجد أن على المسلم أن يطيع في حدود الشرع، أما ما خالف ذلك فلا. وعلى المسلم أن يحذر من الطاعة العمياء التي تنتج عن تقديس الأشخاص، فهذا لا يجوز في دين الله. فتقديس الأشخاص وإعطائهم مرتبة غير المرتبة التي يستحقونها لا يجوز في الإسلام، مهما كانت مرتبتهم، ومهما علت منزلتهم. وقد ذم القرآن الأقوام السابقة لأنهم قدسوا رهبانهم وأعطوهم منزلة ليست لهم، قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة31. ولهذا ينبغي أن توزن أفعال هؤلاء وأقوالهم بميزان الشرع، وان يؤخذ من أفعالهم وأقوالهم ما يوافق شرع الله أو لا يتعارض معه.

وهذا هو منهج الإسلام في محاربة الدكتاتورية والطغيان، ومحاصرتها قبل استفحالها، فإن لم يقم المسلم بواجبة في ردع الطغيان بالوقوف ضد الأوامر الفاسدة والظالمة والتي فيها مخالفة للشرع وللقوانين ويمتنع عن تنفيذها، صار إيقاف هذا الطغيان بعد استفحال أمره شبه مستحيل. وعدم الطاعة على هذا النحو ليس عصياناً ولا تمرداً، وإنما هو نوع من أنواع النهي عن المنكر، ووسيلة مشروعة من وسائل التقويم التي شرعها الله وأوجبها على الأمة لتصحيح مسار الحاكم الذي بدأ يسلك مساراً معوجاً عن المسار الذي رسمه الله له.

جواز متابعة الإمام في الأمور الاجتهادية

الإمام في صلاة الجماعة ليس معصوما من الزلل والخطأ والنسيان، فهو بشر يخطئ وينسى، ففي هذه الحالة ليس من الصواب تصيّد هذه الأخطاء، واستغلالها في عدم متابعته في الصلاة. فإذا أخطأ الإمام في الصلاة فيما لا يخل بها أو يبطلها – كأن نسي التشهد الأوسط – جاز للمأمومين – بعد تذكيره في الصلاة بالخطأ الذي قام به وبالكيفية التي علمنا رسول الله r – جاز لهم أن يتابعوه في ذلك، لأنه ليس في ذلك بطلان للصلاة.

وكذلك الحال بالنسبة لولي الأمر، فلا يعقل أن يتم مخالفة ولي الأمر في كل صغيرة وكبيرة، وأن يترك الأمر حسب تفسيرات الأفراد، بل يجب أن يعطى الحاكم مجالاً يستطيع فيه الاجتهاد وترجيح الأصوب، لا سيما في الأمور التي تتطلب دراسة وتعمق في اتخاذ القرار، ولذلك فقد يقوم الحاكم بأمور اجتهادية لا تتعارض مع شرع الله، لكنها قد تخالف فئة من الناس، ففي هذه الحالة يجوز متابعته في ذلك وطاعته. وقد فصّل الدكتور أحمد محمد العليمي في كتابه (الانضباط والطاعة وأثرهما التربوي) حكم طاعة ولي الأمر في ذلك فقال: “فإذا عرفنا المقصود بالمعروف وأنه ما أمر به الشارع أمراً جازماً وهو الواجب، أو أمر به أمراً غير جازم وهو المندوب، أو خيّر في فعله أو تركه وهو المباح، فكل ذلك من المعروف.

فما حكم طاعة أولي الأمر بذلك؟

فأما الطاعة في الواجب: كأن يأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة ونحو ذلك فطاعته واجبة بالإجماع، لأن هذه الأمور واجبة في ذاتها، وولي الأمر منفذ وقائم عليها.

وأما الطاعة في المندوب: كأن يأمر ولي الأمر ببناء المساجد والمستشفيات أو شق الطرق وكل ما يحتاج إليه الناس، ومثل ذلك لو نهى عن الإسراف في الولائم والأفراح، أو اختلاط النساء بالرجال، فالطاعة عندئذ واجبة أيضاً، لأن ما أمر به أو نهى عنه قد أمر به الشرع أو نهى عنه في الأصل، ولأن هذه الأمور داخلة دخولاً أوليا في المعروف الذي تجب طاعته فيه.

أما الطاعة في المباح: فقد اختلف العلماء في طاعة ولي الأمر في المباح، فقال بعضهم: لا تجب الطاعة في المباح، لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما أحله الله تعالى، ولا أن يحل ما حرمه الله تعالى.

وقال بعضهم: بل تجب الطاعة لأنه داخل في المعروف الذي شرعت الطاعة فيه.

وقال بعضهم: إذا كان فيه ضرر على المأمور به فيجب الامتثال ظاهراً لا باطنا.

وقال بعضهم: إنما تجب الطاعة فيما كان لله طاعة، وللمسلمين فيه مصلحة.

والذي يظهر أن هناك فرق بين الأمر المباح والمنهي عنه:

فإذا أمر بالمباح مثل كثير من التنظيمات الإدارية، ومثل تعلم العلوم الدنيوية، وتخطيط المدن ونحو ذلك. فهذا يجب امتثاله، لأنه وإن كان في الأصل مباحاً غير واجب، لكنه أصبح واجباً بطلب الولي، ويكون داخلاً في المعروف، إلا إذا كان المباح وسيلة إلى محرّم، فإن الوسائل لها حكم الغايات، فلا تجب الطاعة حينئذ في هذا المباح.

أما النهي عن أمر مباح مثل أكل اللحوم، وزراعة بعض الثمار، ومثل تعدد الزوجات وغير ذلك. فهذا محل نظر، بحيث يفرق بين النهي الفردي والنهي الجماعي.

فإذا كان فردياً أي مقصوداً به أفراداً محدودين، كأن ينهى الوالي شخصاً أو أشخاص محدودين عن السفر إلى الخارج، أو عن الزواج من الكتابيات، فإذا كان هذا النهي لمصلحة رآها الوالي فيجب طاعته.

ولعل مما يشهد لذلك ما اشتهر عن عمر t انه نهى بعض الصحابة عن الزواج بالكتابيات.

وإذا كان هذا النهي لشهوة لا لمصلحة، جازت الطاعة ظاهراً لا باطنا.

وإذا كان النهي جماعياً – أي مقصود به جماعة من الناس – وذلك بأن يصدر فيه تعميمات عامة وقوانين منظمة، فهذا لا يطاع فيه لأنه يعتبر بمثابة التشريع المخالف لشرع الله تعالى، لما في ذلك من تحريم الحلال، ولا يعتبر ذلك من الطاعة في المعروف. انتهى”[18]

إقالة عثرات الإمام وقبول عذره

شرع النبي r لمن أخطأ في الصلاة أن يسجد سجدة السهو بعد أو قبل التسليم من الصلاة. فإذا أخطأ الإمام في الصلاة، شرع له أن يسجد سجدة السهو تكفيراً لخطأه، وعلى المأمومين أن يسجدوا معه. يقول صاحب كتاب (الإمام والمؤذن): “السهو والغفلة من طبيعة البشر، والنبي r وهو أكمل البشر سهى في صلاته، وقال بعدما سهى في صلاته: (إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني…) الحديث رواه البخاري. ويشرع سجود السهو إذا سهى المصلي فزاد في صلاته أو أنقص منها أو شك فيها، وهو واجب في كل سهو يبطل عمده الصلاة. والسنن لا يشرع لها سجود سهو، أما الواجبات والأركان فيجب الإتيان بسجود السهو في آخر الصلاة؛ ويزيد الركن أنه لا بد الإتيان بالركن الذي أخل به المصلي”[19]

ثم ذكر الأحوال التي سهى فيها رسول الله r في صلاته وكيف كان سجوده فيها، فقال: “والخلاصة: أن سجود السهو يكون إما لنقص في الصلاة، أو للزيادة فيها، أو للشك فيها. فمن أنقص من صلاته شيئاً سجد قبل السلام، ومن زاد في صلاته شيئاً سجد بعد السلام، ومن شك في صلاته مع تحري وترجيح، فيسجد بعد السلام، ومن شك في صلاته ولم يترجح عنده شيء فإنه يبني على اليقين وهو الأقل وليسجد قبل السلام. وغالب مسائل سجود السهو تدور حول هذه الأحوال الأربعة – والله أعلم.”[20]

ومن المعلوم أن الخطأ والنسيان هما من طبيعة البشر، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله r: « كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم. وعنْ أَبي هُريْرة t قَال: قَال رسُولُ اللَّهِ r: «والَّذي نَفْسِي بِيدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا، لَذَهَب اللَّه تَعَالى بِكُمْ، ولجاءَ بقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّه تَعالى فَيغْفِرُ لهمْ» رواه مسلم. فهذه طبيعة البشر. والحاكم بشر يخطئ ويصيب، وفي الحديث: إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني…” رواه البخاري. وصدق الشاعر حيث قال:

والنقص في أصل الطبيعة كامنٌ       فبنوا الطبيعة نقصهم لا يُجحدُ

وينبغي ألا يكون تصيّد عثرات الحاكم ديدن المسلم، فهذا ليس للمسلم بخلق، بل إن من أخلاق المسلم غفران الزلات والتجاوز عن العثرات. وقد قام أصحاب عبد الله بن سبأ – في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان t – بتصيد عثرات الخليفة وهفواته أو ما زعموا أنها أخطاء ارتكبها أثناء خلافته، فقاموا بإثارة الفوضى وتحريض الآخرين عليه واستباحوا دمه. ولو تم التحقيق في الأعمال التي زعموا أنها أخطاء لاتضح بطلان زعمهم، ولظهر عذر الخليفة t في ذلك.

وقد يترتب على عدم الأخذ بهذا الخلق – إقالة عثرات الإمام وقبول عذره – قلاقل وفتن واضطرابات، ولفُتح الباب على مصراعيه للمغرضين والمنافقين لتمرير مخططاتهم وتحقيق أهدافهم الخبيثة. ولهذا جاء التوبيخ من النبي r لهؤلاء الذين يتصيدون الهفوات ويتعقبون الزلات ليهينوا بها السلطان، فعن أبي بكر t قال: سمعت رسول اللَّه r يقول: «مَن أهَانَ السُّلطَانَ أَهَانَهُ اللَّه» رواه الترمذي وقال: حديث حسن.وعَنْ مُعَاويةَ t قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يقُولُ: «إنَّكَ إن اتَّبعْتَ عَوْراتِ المُسْلِمينَ أفسَدْتَهُمْ، أوْ كِدْتَ أنْ تُفسِدَهُمَ» حديثٌ صحيح.

وإقالة العثرات لا تعني البتة عدم إنكار المنكر وتبيين الخطأ من قبل الفرد المسلم، ولا تعني– أيضاً – التمادي في هذا المنكر من قبل الحاكم. بل لا بد على المسلمين من النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كواجب عليهم لحكامهم، ولا بد – أيضاً – على الحاكم من الإقلاع عن الخطأ والرجوع عنه. “قال الشيخ محمد بن صالح المنجد: ولكن كل ما سبق لا يعني أن نترك المخطئين في حالهم، ونعتذر عن العصاة وأرباب سبق بأنهم بشر، أو أنهم مراهقون أو أن عصرهم مليء بالفتن والمغريات وغير ذلك من التبريرات. بل ينبغي الإنكار والمحاسبة، ولكن بميزان الشرع”[21]. وهذا ينطبق أيضاً على الحاكم المسلم، فلا بد من الإنكار عليه ومحاسبته وفق شرع الله، وبضوابط الشرع في الإنكار والمحاسبة والنصيحة، ففي الحديث عن أَبِي رُقيَّةَ تَميمِ بنِ أَوْس الدَّارِيِّ t أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ «للَّه وَلِكِتَابِهِ ولِرسُولِهِ وَلأَئمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رواه مُسْلم.


[1] ) سواء كان رئيساً للدولة، وزيرا فيها، رئيساً لمؤسسة، أو مديرا فيها، رئيسا لجماع أو قبيلة أو مسؤولاً فيها، وغيرها من المسميات التي حقيقتها تحمل مسؤولية مجموعة من الناس في جانب من جوانب الحياة.

[2] ) السيد سابق. فقه السنة (المجلد الأول)  صـ204.

[3] ) درة الرسائل – رسالة (ماذا تفعل في الحالات التالية) – الشيخ محمد المنجد صـ32.

[4] ) ولا بالانصراف: أي الانصراف من السلام.

[5] ) صفي الرحمن المباركفوري – الرحيق المختوم صـ307.

[6] ) د. محمد السيد الوكيل. القيادة والجندية في الإسلام. صـ172.

[7] ) المصدر السابق صـ174.

[8] ) د. علي أحمد القليصي. فقه العبادات ( الجزء الأول ) صـ 234.

[9] ) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/128)

[10] ) درة الرسائل – رسالة (ماذا تفعل في الحالات التالية) – الشيخ محمد المنجد صـ26. قال فيها: من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة.

[11] ) د. أحمد محمد العليمي – الانضباط والطاعة وأثرهما التربوي صـ8. )بتصرف)

[12] ) المصدر السابق صـ37.

[13] ) د. محمد السيد الوكيل. القيادة والجندية في الإسلام صـ174.

[14] ) د. أحمد محمد العليمي – الانضباط والطاعة وأثرهما التربوي صـ66.

[15] ) د. محمد عبد القادر أبو فارس. النظام السياسي في الإسلام. صـ71.

[16] ) المصدر السابق صـ77.

[17] ) د. عماد الدين خليل – ملامح الإنقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز – صـ73.

[18] ) د. أحمد محمد العليمي – الانضباط والطاعة وأثرهما التربوي صـ69.

[19] ) فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب – الإمام والمؤذن.

[20] ) المصدر السابق.

[21] ) الشيخ: بندر بن أحمد علي الخضر – منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع زلات العلماء صـ89.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى