قراءة كتاب

المبحث الثالث: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بالفرد المسلم كعضو في جماعة المسلمين (5)

المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني

تنشئة الأطفال تنشئة عصامية:

يشهد الصبيان الصلاة مع المسلمين، فيتعلمون الصلاة والقرآن، ويصطفون خلفون المسلمين. فقد كان النبي r يصفّ الصبيان خلف الرجال. ففي الحديث: “كان رسول الله r يجعل الرجال قدام الغلمان، والغلمان خلفهم، والنساء خلف الغلمان” رواه أحمد وأبو داود.

وكان النبي يُحضر الحسن والحسين المسجد وهما صغيرين. فعن عبد الله بن شداد رضي الله عنه قال: “خرج علينا رسول الله r في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حسيناً، فتقدم رسول الله r فوضعه ثم كبَّر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر الرسول الكريم، وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي؛ فلما قضى رسول الله r الصلاة، قال الناس: “يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يُوحى إليك، فقال: “كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته” رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

بل كان أحياناً يحمل الأطفال وهو يصلي، فقد ثبت في الصحيحين عن قتادة، أن رسول الله r كان يصلي وهو حامل أُمامة بنت زينب بنت رسول الله، وهي لأبي العاص بن الربيع، فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها، فلما سلَّم حملها.

وكان الصحابة يحضرون أطفالهم إلى المسجد، ولم ينههم النبي عن ذلك، بل إنه كان يتجوز في صلاته بهم مراعاة لحال الأطفال وأمهاتهم، فقد ورد عن النبي r أنه إذا سمع بكاء صبي تجوز في صلاته رحمة بهم وبأمهاتهم، فعن أَبي قَتادَةَ الْحارِثِ بنِ ربْعي t قال: قال رسول اللَّه r: «إِنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأُرِيدُ أَنْ أُطَوِّل فِيها، فَأَسْمعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجوَّزَ فِي صلاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» رواه البخاري.

وهكذا يشهد الأطفال مع المسلمين الصلاة فيتعلمون الخير ويشبون عليه، فيعقلون الصلاة، ويحسنون القرآن. ولم يرد عن النبي r النهي ان احضار الأطفال إلى المسجد، بل على العكس من ذلك، كان حريصا على إحضارهم المسجد لما في ذلك من تنشئة سليمة وتربية، ولولا المساجد لما ظهر ذلك الجيل من الصحابة وكذلك التابعين من بعدهم.

ومن نشأ من هؤلاء الأطفال في المسجد، وتعلم القرآن الكريم، أصبح مؤهلا لإمامة المصلين، فقد أجاز الفقهاء إمامة الصبي للرجال إذا كان يعقل الصلاة ويحسن قراءة القرآن. يقول صاحب كتاب (الإمام والمؤذن): الصبي هو من بلغ سبع سنين إلى البلوغ. فإن كان الصبي يعقل الصلاة، ويحسن القراءة، جازت إمامته. والدليل على صحة إمامته قوله r: “يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله” رواه مسلم (637). وعن ابن عمرو بن سلمة t قال: كان يمر علينا الركبان، فنتعلم منهم القرآن، فأتى أبي النبي r، فقال: “ليؤمكم أكثركم قرآناً” فجاء أبي فقال: إن رسول الله r قال: “ليؤمكم أكثركم قرآنا” فنظروا، فكنت أكثرهم قرآناً، فكنت أؤمهم وأنا ابن ثمان سنين، رواه النسائي(761) وقال الألباني في صحيح النسائي: صحيح.”[1]

ولم يكن اهتام الإسلام بالطفول مقتصراً على المساجد، بل كان شاملا لكل مراحلها، فقد اعتنى الإسلام بالطفولة عناية لم يسبق لها مثيل ولن يكون لها مثيل. فاعتنى الإسلام بالطفل وهو لا يزال في بطن أمه جنيناً، واعتنى به وليداً، واعتنى به رضيعاً، واعتنى به غلاماً، وتستمر عناية الإسلام به حتى يصير شاباً ثم رجلاً ثم كهلاً.

ولأن مرحلة الطفولة هي من أهم المراحل في بناء شخصية المسلم، فقد أَولاها الإسلام عناية فائقة. “فمرحلة الطفولة تعتبر أهم مرحلة في حياة الإنسان، ففيها بداية التشكيل والتكوين، وعليها سيكون الإنسان بعد ذلك: سوياً أو مريضاً، فجميع الأمراض النفسية – تقريباً – تنشأ نتيجة لسوء فهم طبيعة هذه المرحلة ومتطلباتها، فالغضب والخوف والانطواء والتبول اللاإرادي والشجار والسرقة وغير ذلك من الأمراض تنشأ في بداية هذه المرحلة، إن أسيء إلى الطفل ولم يعامل المعاملة النبوية السليمة.”[2]

والوالدان هما المصدر الرئيس لتنشئة الأطفال، ففي الحديث: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أن ينصرانه، أو يمجسانه“، ولذلك جاءت الأوامر الإلهية للوالدين بالعناية بأطفالهم وتربيتهم تربية سليمة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم6، وعن عبد الله بن عامر t، قال: “دعتني أمي ورسول الله r قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها r: “ما أردت أن تعطيه؟” قالت: أعطيه تمرا، فقال لها: “أما أنك لو لم تعطِه شيئا كُتبت عليك كذبة“. يقول الإمام الغزالي: “الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عُوِّد الشر وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك .. وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق.”[3]

فإذا لم يجد الطفل من يربيه تربية إسلامية، ويُنشِّأه تنشأة رجولية، تلقفته أيادي البغي والفجور، واحتضنه أصحاب الفكر المسموم من أبناء المسلمين ممن تشربوا أفكار الأعداء فصاروا دعاة إليها، ونشأ نشأة غير سوية، حتى يصير لبنة من لبنات الفساد، إلّا أن يعصمه الله.

وليس النبتُ ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في الفلاة
وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثُدُيّ الناقصات

“جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر t يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد ووبخه على عقوقه لأبيه ونسيانه الحقوق، فقال الولد: يا أمير المؤمنين: أليس للولد حقوق على أبيه؟! قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب (أي القرآن الكريم)، قال الولد: يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك، أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جعلاً (أي خنفساء)، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً. فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إليّ تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك!”[4]

وعندما وجد أطفالنا الرعاية الكافية، والتربية الصحيحة، والتعليم الصافي – كما حدث في خير القرون – وجدنا فيهم نماذج فريدة – وهم لا زالوا صغاراً – لأنهم تربوا على الأخلاق الكريمة فظهرت فيهم جلية واضحة. تربوا على الشجاعة فصاروا شجعاناً، وتربوا على الكرم فصاروا كرماء، وتربوا على الأمانة فكانوا أمناء، وتربوا على الصدق فكانوا صادقين لا يكذبون مطلقاً، وتربوا على الوفاء فكان الوفاء من صفاتهم، وتربوا على تحمل المسؤولية فكانوا أهلاً لها، تربوا على هذه الأخلاق الفاضلة فظهرت في سلوكياتهم وأفعالهم عندما صاروا كبارا.

لأنهم تربوا على الشجاعة، صاروا شجعان لا يخافون أحدا – إلا الله. “كان عبد الله بن الزبير يلعب ذات يوم مع الصِبية، وهو ما زال صبياً، وإذا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يمر من المكان. فعندما رأى الصِبيَة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فرّوا من أمامه إلّا عبد الله بن الزبير.

فسأله عمر: يا عبد الله لماذا لم تفر كما فر زملاؤك.

فقال عبد الله: ولما يا أمير المؤمنين. لم أرتكب ذنباً فأخافك، وليست الطريق ضيق فأوسّعها لك.”[5]

وهذان معاذ ومعوذ ابنا عفراء – نموذج في البطولة والشجاعة وهما لا يزالان صغيران، “يقول عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتَيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي ما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه! وقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله. قال: فما سرني أنني بين رجلين مكانهما. فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين، فضرباه حتى قتلاه، وهما ابنا عفراء[6].”[7]

بل كان منهم القادة للجيوش الإسلامية لكفاءتهم وجدارتهم. فقد أمّر رسولُ الله r أسامة بن زيد – وهو لا يزال غلاماً – على جيش فيه أبو بكر وعمر. وحين اعترض البعض على تأمير الرسول لأسامة، وساءهم ذلك. قال رسول الله r رداً على اعتراضهم: “لئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبلُ، وأيم الله إن كان لخليقاً بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليقاً بها، وإن كان لَمِنْ أحبِّ الناس إليّ” أخرجه البخاري.[8]

ووجدنا من يحفظ الأسرار، ويعرف أضرار الثرثرة وإفشاء الأسرار، لأن الرسول r علّمهم ذلك فقال: «كفي بالمَرءِ كَذِباً أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سمعِ» رواه مسلم، وقال: «إِنَّ اللَّهُ تعالى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمهَاتِ، ومنْعاً وهات، ووأْدَ البنَاتِ، وكَرَهَ لكُمْ قِيل وقالَ، وكثرة السَؤالِ، وإِضَاعة المالِ» متفقٌ عليه. فصاروا لا يفشون الأسرار، فعن ثابتٍ عن أنس t قال: أَتى عليَّ رسول اللَّه r وأَنا ألْعبُ مع الْغِلْمانِ، فسلَّمَ عَلَينَا، فبعَثني في حاجة، فَأبْطأْتُ على أُمِّي، فلَمَّا جِئتُ قالت: ما حَبَسَكَ؟ فقلتُ: بعَثَني رسولُ اللَّه r لحَاجَةٍ، قالت: ما حَاجتهُ؟ قلت: إِنَّهَا سرٌّ. قالتْ: لا تُخِبرَنَّ بسِر رسول اللَّه r أحداً. قال أَنَسٌ: واللَّهِ لوْ حدَّثْتُ بِهِ أحَداً لحدَّثتُكَ بِهِ يَا ثابِت. رواه مسلم. وروى البخاري بعْضَهُ مُخْتصراً.

ووجدنا من أطفال المسلمين من جعل الصدق شعاره، فلا يكذب مطلقاً، وإن جارت عليه الأيام. لأنهم يعلمون: «إنَّ الصِّدْقَ يهْدِي إلى الْبِرِّ وَإنَّ البرِّ يهْدِي إلى الجنَّةِ، وإنَّ الرَّجُل ليَصْدُقُ حتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدّيقاً، وإنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ وإنَّ الفُجُورَ يهْدِي إلى النارِ، وإن الرجلَ ليكذبَ حَتى يُكْتبَ عنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً» متفقٌ عليه. فهذا الإمام الشافعي أرسلته أمه إلى المدينة – وهو لا يزال غلاماً – ليتلقى العلم على أيدي علماءها، وأوصته بالصدق في كل الأحوال. “فخرج مع القافلة المتجهة إلى مدينة رسول الله r بعد أن زودته أمه بالزاد، وأعطته مبلغاً من المال ستون ديناراً. وأثناء ما هم في الطريق هاجم القافلةَ بعضٌ من قطاع الطريق، سلبوا أموالهم وأمتعتهم. فلما وقف الإمام الشافعي أمام رئيس قُطّاع الطريق سأله الرجل قائلاً: يا غلام ماذا معك من النقود؟ فقال الإمام: ستون ديناراً.. فضحك الرجل وضحك باقي اللصوص المتحلقين حول الإمام. وقال الرجل: وهل يعقل يا فتى أن يكون معك ستون ديناراً! دعوه فإنه يهذي. ثم تركوه والقافلة ورحلوا عنهم.”[9]

ووجدنا – أيضاً – من يعرف واجبه تجاه دينه ووطنه، ولم يمنعه صغره من نصرة دين الله، لأنه يقرأ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} الصف14. ولأنه تعلم من نبيه r قوله: «مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكراً فَلْيغيِّرْهُ بِيَدهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطعْ فبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلبهِ وَذَلَكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ» رواه مسلم. كما كان من الصحابي الجليل – الغلام – عُمير بن سعد. ف”ذات يوم تجهز الرسول لغزوة من غزواته، ورأى عميرٌ t الجُلاسَ – زوج أمه – لا يسارع في التبرع لهذه المعركة التي تبرع فيها حتى من لم يجدوا قوت يومهم – وكانت غزوة تبوك – فتوجه الغلام إلى الجلاس قائلاً له: لماذا لا تمد يد المعونة إلى رسول الله وأنت ما أنت من الغنى والثراء، ولا يعوزك أن تنفق شيئاً من مالك لهذه الغزوة. فقال الجلاس: إن كان محمد صادقاً فيما يدعيه من النبوة فنحن شرّ من الحمير.

بُهت عمير من هذه الكلمات التي خرجت من فم الجلاس، والتي تضعه في عداد المشركين وهو المعروف عنه الإسلام.

فقال له: والله يا جلاس ما كان على ظهر الأرض أحدٌ بعد محمد بن عبد الله أحب إلي منك. فأنت أحب الناس عندي وأعظمهم نعمة علي. ولقد قلت مقالة إن ذكرتها فضحتك، وإن أخفيتها خنت أمانتي وأهلكت نفسي وديني. وقد عزمت على أن أمضي إلى رسول الله r وأخبره بما قلت، فكن على بينة من أمرك.

ثم ذهب عمير فأخبر الرسول بما قاله الجلاس، فأرسل الرسول إلى الجلاس وعمير عنده فأخبره بما قال عمير، فكذبه وأقسم أنه ما قال هذا أبداً. وهنا دعا عمير أن ينزل الله ما يصدّق قوله، وأثناء ما هو يدعو نزل الوحي على الرسول r: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} التوبة74.

فارتعد الجلاس من هول ما سمع، وانعقد لسانه من الجزع والخوف ثم قال: بل أتوب يا رسول الله. بل أتوب … صدق عمير وأنا من الكذابين.

وحسن إسلام الجلاس بعد ذلك، وكان كلما ذكر عمير بن سعد أمامه قال: جزاه الله عني خيراً، فقد أنقذني من الكفر وأعتق رقبتي من النار.”[10]

ووجدنا أيضاً من يعرف خطر الغش والخيانة، لأنه «مَنْ غَشَّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا» كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم، فلا يغش في عمله ولا يخون، ولا يراقب في ذلك إلا الله سبحانه. (عن عبد الله بن زيد ابن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال: بينما أنا مع عمر بن الخطاب وهو يعس بالمدينة، إذ عيي فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل. فإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. فقالت لها: يا أمتاه أوما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: أنه أمر مناديه فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنتاه قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر. فقالت الصَبيّة لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء[11])[12].

والأصل في المجتمع المسلم أن ينظر إلى الأطفال نظرة إيجابية فيها تفاؤل وتشجيع لهم، فهم المستقبل المنشود. وقد كانت نظرة سلف هذه الأمة لأطفالهم نظرة ليس فيها احتقار ولا تقليل من شأنهم، بل على العكس من ذلك كان فيها تشجيع وإشراك في قضايا هامة، “فعن يوسف بن يعقوب قال: قال لي ابن شهاب ولأخٍ لي وابن عمٍّ لي ونحن صبيان أحداث: لا تحقروا أنفسكم بحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الصبيان فاستشارهم، يبتغي حدة عقولهم.”[13]. بهكذا معاملة سيحظى أطفالنا برعاية كبيرة تؤهلهم لأن يكونوا جيل المستقبل المنشود، والمؤمل فيه رقي هذه الأمة العظيمة وازدهارها. وسنجد – عندئذ – نماذج الشجاعة والفروسية والصدق والإخلاص للدين والوطن وغيرها من النماذج تتكرر في مجتمعاتنا كما وُجدت في المجتمع الأول عندما قام بواجبه في الاهتمام بالطفولة.

وإذا أردت أن تعرف حال أمة في الحاضر وفي المستقبل فانظر إلى أطفالها وشبابها، ما هي هممهم وغاياتهم وطموحاتهم، وما هي آمالهم وكيف يلعبون. أرسل الأعداء إلى بلاد الأندلس جاسوساً تمهيداً لغزوها، فرأى الجاسوس أطفال المسلمين وهم يلعبون بالنَبل، ويبكي بعضهم إذا أخطأ في إصابة الهدف، فعاد إلى بلاده ناصحاً لهم بأن الوقت لم يحن بعد. ثم تمر الأيام ويُرسل هذا الجاسوس إلى هذه البلاد مرة أخرى، ولكنه في هذه المرة يرى تغيراً في سلوكيات أطفال المسلمين، ويرى اختلافاً في اهتماماتهم، فعلم أن الوقت سانح للغزو على بلاد المسلمين لأنه لم يعد هناك خوف من شباب ورجال المستقبل لهذه البلاد.[14]

ويدرك أعداء هذه الأمة اهتام الإسلام بهذه المرحلة من حياة الانسان، فهم في سعي دائم بشتى الوسائل لحرف هذه الأمة عن هذا المسار، وتوجيه اهتمام الأطفال والشباب إلى وجهات بعيده كل البعد عما أراده الإسلام لهم، وصرف اهتمام الآباء والأمهات عن تربية أبنائهم تربية عصامية كما أرادها بيهم، بحجة أنهم لا زالوا أطفالاً صغاراً، وفي مرحلة الشباب بحجة أنهم شباب مراهقين لا لوم عليهم. ورغم أنهم قد نجحوا في ذلك إلى حد ما، وصارت هذه المفاهيم سائدة في كثير من البلاد الإسلامية، إلا أن الأمة لا تزال بخير، ولا تزال بذرة الرجولة موجود في أطفالنا وشبابنا.


[1] ) فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب – الإمام والمؤذن.

[2] ) موسوعة الأسرة المسلمة (2) – الإبداع في تربية الأولاد صـ11.

[3] ) المصدر السابق صـ15ـ.

[4] ) موسوعة الأسرة المسلمة (2) – الإبداع في تربية الأولاد صـ77. 

[5] ) م/ محمد سلطان – أشبالنا العلماء صـ46.

[6] ) وفي رواية أنهما: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء.

[7] ) محمد الغزالي – فقه السيرة – صـ245.

[8] ) المصدر السباق صـ491.

[9] ) م/ محمد سلطان – أشبالنا العلماء صـ 31.

[10] ) م/ محمد سلطان – أشبالنا العلماء – صـ93.

[11] ) امذقيه: امزجيه واخلطيه. الخلاء: المنزل إذا خلا فيه صاحبه.

[12] ) الإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي – تاريخ عمر بن الخطاب صـ 101.

[13] ) المصدر السباق صـ215

[14] ) ذكر هذه القصة الدكتور طارق السويدان في حديثه عن الأندلس .

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى