قراءة كتاب

المبحث الثالث: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بالفرد المسلم كعضو في جماعة المسلمين (1)

المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني

من المسلّم به أن أي مجتمع إنما يتكون من أفراد، وصلاح أفراد هذا المجتمع هو صلاح للمجتمع، وفسادهم فساد له، وقد ذكر الله ذلك في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11). فالحال لا يتغير سلباً أو إيجاباً إلا إذا تغيرت نفوس الأفراد – سلباً أو إيجاباً – وبتغير النفوس يتغير الأفراد ومن ثم يتغير المجتمع، وإذا علم الله التغير في النفوس، هيأ الأسباب لتغير الأحوال، وتسارعت الخطوات إلى ذلك.

وإذا كثر الأفراد الصالحون المصلحون تكوّن المجتمع المسلم ونشأت الدولة المسلمة، فالفرد المسلم الصالح المصلح يعرف حقوقه وواجباته فيقوم بما عليه من واجبات فيصلح بصلاحه أفراداً آخرين، وهكذا يكثر عدد أفراد المجتمع ممن يتصفون بالصلاح والإصلاح، وتكون الفرصة مهيأة لتكوين الدولة المسلمة. تماماً كما فعل النبي r، بدأ بتكوين الفرد المسلم، فلما تم له ذلك وكثر عدد الأفراد الصالحون بدأ بالبحث عن المكان الذي يصلح لتكوين الدولة المسلمة – بعد أن أيقن أن مكة لا تصلح لذلك – فوجده في يثرب. وفي المقابل إذا وُجد الأفراد الفاسدون المفسدون وكثر عددهم، ظهر المجتمع الفاسد وظهرت الغثائية في هذا المجتمع، ونشأت نتيجة لذلك الحكومة الفاسدة، وساد البغي والظلم والفساد.

والرسول الكريم – صلوات ربي وسلامه عليه – حينما بدأ دعوته، مكث ثلاثة عشر سنة في مكة المكرمة يربي الأفراد ويكوّن جيل التمكين. واستمرت هذه التربية بعد انتقاله r إلى المدينة وتكوين الدولة الإسلامية، وكانت الآيات تتوالى بالنزول على النبي r فيها تربية وتزكية للنفوس وتطهير لها وتهذيب للأخلاق وغرس للقيم التي ينبغي أن يتحلى بها الفرد المسلم الذي هو لبنة من لبنات المجتمع المسلم المنشود.

وعندما يظهر الفرد المسلم المستعد لأن يضحي من أجل الغايات والاهداف السامية، ويكثر عددهم، ينتصر المسلمون على أعدائهم. وهذا هو العامل الرئيس في انتصار المسلمين قديماً وحديثاً، فوجود مثل هؤلاء الأفراد الذين تربوا على منهج الاسلام، والذين يحملون عقيدة ربانية وغاية سماوية، يقاتلون في سبيلها ويضحون من أجلها، يؤدي – بفضل الله – إلى النصر لا محالة، يقول صاحب كتاب “خطوط رئيسية لبعث الأمة الإسلامية”: “فالسبب الأول في انتصار المسلمين قديماً وحديثاً هو إيجاد الفرد المستعد لأن يبذل دمه وماله في سبيل غايته. وليس هناك عقيدة في الأرض أقوى من هذا، ولا فرد في الأرض أقوى من هذا الفرد، الذي يؤمن بهذه العقيدة.”[1]

ومن التشريعات التي شرعت لتربية الفرد المسلم – ليكون فرداً فعالاً إيجابياً في المجتمع – صلاة الجماعة. وسنعرف كيف أن للفرد أدوار إيجابية مهمة، ينبغي له القيام بها مع من حوله من الأفراد ومع من هم مسؤولين عنه. وسنتحدث عن إيحاءات هذه الصلاة فيما يتعلق بدور الفرد في الجماعة المسلمة.

فمن إيحاءات صلاة الجماعة التي سنتحدث عنها والتي تخص الفرد المسلم ما يلي:

  1. المبادرة إلى الانضمام إلى الجماعة والتحذير من مفارقتها
  2. تحمل مسؤولية إصلاح المجتمع
  3. الوعي والإدراك
    • الحرص على وحدة الصف
    • المحافظة على سلامة أفراد المجتمع
    • دور المرأة في المجتمع
    • أطفال المسلمين
  4. الحرية
  5. طاعة ولي الأمر
    • لا طاعة إلا في المعروف
    • جواز متابعة الإمام في الأمور الاجتهادية
    • إقالة عثرات الإمام وقبول عذره
  6. الرقابة على ولي الأمر
    • اختيار الأصلح
    • النصيحة للأئمة المسلمين
    • مقاضاته إن تعدى وظلم
    • عزله إن أخل بالشروط

أولاً: المبادرة إلى الانضمام إلى الجماعة والتحذير من مفارقتها

يطالب الإسلامُ المسلمَ بالانضمام إلى الصلاة، وان يقف في الصف مع المصلين، وأن يبادر إليها دون تأخير، وألا ينشغل عنها بشيء آخر من عبادة النوافل، لحديث أبي هريرة t أن النبي r قال: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) رواه مسلم. يقول الدكتور القليصي: “وإذا أقيمت الجماعة وهو في نافلة، فإن لم يخش فوات الجماعة أتم النافلة ثم دخل في الجماعة، وإن خشي فواتها قطع النافلة ودخل مع الجماعة لأن الجماعة أفضل.”[2]

وعليه أن يبادر إلى الانضمام إلى الجماعة على أي حالة كان عليها المصلون، في القيام أو الركوع أو السجود. يقول الشيخ محمد المنجد في كتابه (ماذا تفعل في الحالات التالية): “إذا دخل الرجل المسجد والإمام يصلي فهل يدخل مع الإمام مباشرة أو ينتظر حتى يرى الإمام هل سيقوم أو سيجلس؟ الصحيح الذي يدل عليه الدليل أنه يدخل مع الإمام في أي حال يكون فيه الإمام ساجداً أو قائماً أو راكعاً أو قاعداً، والدليل هو حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة) سنن أبي داود 893 وصحيح سنن أبي داود 792. وعن معاذ قال: قال r: (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام) سنن الترمذي 591 وهو في صحيح سنن الترمذي 484. ولعموم قوله r: (فما أدركتم فصلوا). “[3]

بل يستحب للمرء إذا دخل مسجداً والناس يصلون صلاةً قد صلاها في مسجد آخر أو منفرداً فعليه أن يشاركهم هذه الصلاة ولو في وقت الكراهة. يقول الدكتور القليصي: “فمن صلى منفرداً ثم أدرك جماعة يصلون استحب له أن يصلي معهم ولو في وقت الكراهة، لحديث يزيد بن الأسود: أن النبي r صلى صلاة الغداة في مسجد الخيف، فرأى في آخر القوم رجلين لم يصليا معه، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟) قالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا، قال: (فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح”[4]

والإسلام أيضاً حث المسلم على أن يكون لبنة صالحة في المجتمع المسلم، وأن يبادر إلى ذلك، وألا يتلكأ أو يتردد، بل عليه أن يكون من السابقين إلى ذلك قدر الاستطاعة، وعليه أن يصبر على ذلك ففي الحديث (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم؛ خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.) السلسلة الصحيحة للألباني. وعندما اختار الله (المدينة) لتكون نواة للدولة المسلمة، أصبح لزاماً على كل مسلم أن يبادر إلى هذا البلد الجديد ليكون لبنة صالحة فيه، يقول محمد الغزالي: “فلم تكن الهجرة تخلصاً فقط من الفتنة والاستهزاء، بل كانت تعاوناً عاماً على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن.

وأصبح فرضاً على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة – بعد الهجرة إليها- نكوصاً عن تكاليف الحق، وعن نصر الله ورسوله، فالحياة بها دين، لأن قيام الدين يعتمد على إعزازها.”[5]

ولقد كانت الهجرة في بداية الإسلام واجبة على المسلمين، لأن في هجرة المسلمين تكوين للدولة المسلمة في بداياتها وتدعيم للمجتمع المسلم، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} التوبة20.

يقول صاحب كتاب (القيادة والجندية في الإسلام) “ولقد بلغ من اعتداد الإسلام بالجماعة، واهتمامه بتدعيمها وتقويتها أن اعتبر المؤمنين الذين لم ينضموا إلى جماعة المسلمين في منزلة أقل من منزلة الكافر المعاهد، ولم يجعل لهم ولاية في عنق الجماعة المؤمنة، يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الأنفال72.

 يقول الشوكاني – رحمه الله: (“وإن استنصروكم” – أي هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا – إذا طلبوا منكم النصرة لهم على المشركين “فعليكم النصر” فواجب عليكم النصر، “إلا” أن يستنصروكم “على قوم بينكم وبينهم ميثاق” فلا تنصروهم، ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولائك القوم حتى تنقضي مدته.)

ويقول الشهيد سيد قطب – رحمه الله: (فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا، استمساكاً بمصالح أو قربات مع المشركين، فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية، كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا، ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات، وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة …

وهؤلاء وأولئك أوجب الله على المسلمين نصرهم – إن استنصروهم في الدين خاصة – على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد، لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية.)”[6]


[1] ) عبد الرحمن عبد الخالق – خطوط رئيسية لبعث الأمة الإسلامية.

[2] ) د. علي أحمد القليصي – فقه العبادات – الجزء الأول – صـ226ـ.

[3] ) درة الرسائل – رسالة (ماذا تفعل في الحالات التالية) – الشيخ محمد المنجد صـ19.

[4] ) المصدر السابق صـ226ـ.

[5] ) محمد الغزالي – فقه السيرة صـ163.

[6] ) د. محمد السيد الوكيل. القيادة والجندية في الإسلام صـ100.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى