قراءة كتاب

الفصل الأول: العبادات وبناء المجتمع

كتاب المجتمع المثالي الذي ننشده - إيحاءات من صلاة الجماعة

انحسار معنى العبادة

لقد سعى أعداء الإسلام من يهود ونصارى وغيرهم – يقودهم الشيطان الرجيم، ويساعدهم ويسهل لهم هذه المهمة غفلة المسلمين عن دينهم وانصرافهم عن تعاليم نبيهم –إلى أن يفرغوا عبادة المسلم لربه من محتواها وجوهرها، وأن يحصروها في شعائر وطقوس لا معنى لها، حتى لا تؤتي هذه العبادات أُكُلها وثمارها على الفرد والمجتمع، فكان ما كان من مؤامراتهم ودسائسهم على الإسلام والمسلمين وبثهم للسموم في جسد الأمة المسلمة، وتشجيعهم لطقوس وشعائر لا تمت إلى الإسلام بصلة، حتى صار الإسلام عند كثير من المسلمين دين بلا دولة.. وإيمان بلا عمل.. وعبادة بلا ثمر. فصرنا نرى الصلاة لا تنهى صاحبها عن فحشاء ولا منكر، وصرنا نرى العبادات الأخرى لا تؤتي ثمارها التي شرعت من أجلها، وصار كثير من المسلمين – إلا من رحم الله – لا يأتمر بأمر الله ولا يتبع نهج رسول الله r، بل صرنا نرى من المسلمين من بتنحية الإسلام عن الأمور الحياتية الأخرى، السياسية منها والاقتصادية، وغير ذلك من مخلفات الغزو الفكري. يقول سيد قطب رحمه الله: “إن مصطلح الدين قد انحسر في نفوس الناس اليوم حتى باتوا يحسبونه عقيدة في الضمير وشعائر تعبدية تقام، وهذا ما كان عليه اليهود. إن المعنى الأول للدين هو الدينونة أي الخضوع والاستسلام والإتباع وهذا يتجلي في إتباع الشرائع كما يتجلي في تقديم الشعائر.” [1]

والإسلام جاء بمعنى واسع للعبادة. فالعبادة في الإسلام – كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية – هي: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.”[2]

ثم عدد – رحمه الله – بعضاً من أوجه العبادة فقال: “فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف  والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقرآن، وأمثال ذلك من العبادة.

وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله” [3]

فالعبادة إذاً شاملة تشمل حياة الإنسان كلها. فهي تقتضي أن يُخضع المسلم أموره كلها لما يحبه الله تعالى ويرضاه، فأقواله وأفعاله وقبل ذلك اعتقاداته لابد أن تكون كلها موافقة لما يحبه الله ويرضاه، يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الأنعام – الآية 162. بل ويجب وأن تكون سلوكياته كلها وفق منهج الله، وأن يكون موقفه من أمر الله تعالى ونهيه كموقف المؤمنين الذين سمعوا أمر الله ونهيه وأطاعوه في ذلك وقالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} البقرة 285. فإذا قضى الله أمراً فما على المؤمن إلا الرضى والتسليم، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} الأحزاب 36، ويقول: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} البقرة 285.

“فليس بعابد لله إذن من قال: أصلى وأصوم وأحج، ولكني حُرّ في أكل الحرام كشرب الخمر أو أكل الربا، وأنا حر في رفض ما لا يروقني من الشعائر.

وليس بعابدٍ لله من ظن أن عبوديته لله لا تعدوا جدران المسجد، فإذا انطلق في ميادين الحياة المتشعبة، فهو عبد نفسه فقط، وبعبارة أخرى: هو حر في إتباع هواها، أو إتباع أهواء عبيد أنفسهم من المخلوقين !”[4]

الغاية من العبادات

والعبادات التي فُرضت في الإسلام إضافة إلى أنها خضوع لأمر الله وذلة بين يديه فهي أيضاً تهدف إلى تهذيب أخلاقيات وسلوكيات المسلم والمجتمع المسلم.

فهي تهدف إلى أن يحسّن المسلم من سلوكياته مع ربه، ومع نفسه، ومع من حوله من المسلمين وغير المسلمين. “فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها، أَبَان الحكمة من إقامتها، فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} العنكبوت 45.

والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي – أولاً – غرس لمشاعر الحنان والرأفة وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات.

وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} التوبة 103.

وكذلك الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة 183.”[5]

  فهذه العبادات وغيرها كفيلة – بإذن الله – بأن تهذب من سلوكيات الفرد المسلم، سواءً كان فرداً عاديا أو مسؤولاً على الناس، غنياً أو فقيراً، قوياً أو ضعيفا، رجلاً أو امرأة.

ومن هنا يتضح دور العبادات في بناء المجتمع المسلم وأن تأثيرها لا ينحصر على الفرد المسلم العادي بل يتعداه إلى أن يصل إلى رأس الهرم في المجتمع المسلم.


[1] ) سيد قطب- في ظلال القرآن. تفسير سورة التوبة آية (31).

[2] ) د. يوسف القرضاوي – العبادة في الإسلام صـ50  ـ

[3] ) د. يوسف القرضاوي – العبادة في الإسلام صـ50، نقلاً من رسالة (العبودية) لابن تيمية.

[4] ) د. يوسف القرضاوي – العبادة في الإسلام صـ55.

[5] ) محمد الغزالي. خلق المسلم صـ7.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى