قراءة كتاب

الصلاة نور تُنير طريق المؤمنين في الدنيا والآخرة

كتاب المجتمع المثالي الذي ننشده - إيحاءات من صلاة الجماعة

والصلاة – التي مكانها المسجد – تنير الطريق فتُبعد صاحبها عن ظلمات الفحشاء التي قد يقع فيها جراء الشهوات وإغواء الشياطين، ففي الحديث أن النبي r قال: “… والصلاة نور، .. “[1]، يقول ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: “فالصلاة نور مطلق، وهي للمؤمنين نور في الدنيا، نور في قلوبهم وبصائرهم، تشرق بها قلوبهم وتستنير بصائرهم، ولهذا كانت قرة عين المتقين، كما كان النبي r يقول: “جعلت قرّة عيني في الصلاة[2]. وخرج الطبراني من حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: “إذا حافظ العبد على الصلاة فأقام وضوءها وركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت له: حفظك الله كما حفظتني، وصُعد بها إلى السماء ولها نور تنتهي إلى الله U فتشفع لصاحبها“”[3] .

 أما الإمام أبي الفتح ابن دقيق العيد فيقول في شرحه لهذا الحديث: “وأما قوله r: “الصلاة نور” فمعناه: أنها تمنع من المعاصي وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب، كما أن النور يُستضاء به … “[4]

والصلاة أيضاً برهان على صحة الدين، ففي الحديث عن النبي r قال: “الصلاة برهان” أخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث كعب بن عجرة.

وهي في الآخرة نور للمؤمنين في ظلمات القيامة وعلى الصراط، فإن الأنوار تقسم لهم على حسب أعمالهم، وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمر عن النبي r: “أنه ذكر الصلاة فقال: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تك له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة“.

فضل صلاة الجماعة

ويزداد نور هذه الصلاة عندما يصليها المسلم في جماعة، فينال هو من نورها وفضلها الشيء الكثير. ولهذا رغّب النبي r في الحفاظ على صلاة الجماعة، فعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله r قال:”صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة” متفق عليه. وبين علّة هذا التفضيل فقال: “صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه ما لم يحدث تقول اللهم صل عليه اللهم ارحمه ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة” متفق عليه وهذا لفظ البخاري.

صلاة الجماعة وتنظيم المجتمع

قد يتساءل الكثير عن العلاقة بين الصلاة وتنظيم المجتمع، وكيف يمكن للصلاة أن تنظم مجتمعاً استمرأ الفوضى وعاش فيها عقوداً من الزمان. ولتفنيد هذا التساؤل وتبديد اللبس الذي وقع فيه الكثير، يجدر بنا أن نقف وقفة تأمل في واقع المسلمين وصلاة الجماعة.

مما لا شك فيه أن أي مجتمع من المجتمعات لا يخلو من الصراعات والنزاعات، ومجتمعاتنا المسلمة ليست استثناء، ولكن ما يميز مجتمعاتنا المسلمة التي تنتشر فيه المساجد، ويؤمها كثيرٌ من المسلمين لأداء صلاة الجماعة في اليوم خمس مرات، هي أن هؤلاء المتخاصمين كثيرا ما يتلاقون في المساجد لأداء صلاة الجماعة، وقد يقف المتخاصمان جنباً إلى جنب لأداء صلاة من هذه الصلوات، ولا تمنعهم خصمتهم عن أداء الصلاة، وهذا قَلّ أن تجده في غير الصلاة. بل إن المجتمع قد تجده في خارج المسجد غير منظم، ويتسم بالعشوائية وعدم الانضباط، ويصعب ترويضه، لكنك عندما تنتقل إلى المساجد لتشاهد هذه العشوائية قد اختفت بتراصهم صفوفاً مستقيم خلف إمام واحد، وقد ذكر الدكتور أحمد بن محمد العليمي في كتابة “الانضباط والطاعة” قصة إسلام مهندس طُرُق غربي كان يعمل في اليمن، أسلم لما رأى أثر صلاة الجماعة في تنظيم الناس بعد أن عجز عن تنظيمهم بنفسه. يقول الدكتور العليمي على لسان المهندس: “كنت مسؤولاً عن مخيم لعمال الطرق في مناطق القبائل البدائية، فطلبت من العمال أن ينتظموا في ذهابهم لتناول الطعام، وألا يتزاحموا عند أخذه، فلم يستجب لي أحد.

ثم طلبت منهم الانتظام عند صعود السيارات للذهاب إلى مواقع العمل أو العودة منها، فلم يستجب أحد، حاولت أن يقفوا صفاً عند استلامهم للرواتب عند نهاية الأسبوع، فطلبوا الفلوس وأجلوا التوقيع إلى بداية الأسبوع (يوم السبت)، فلم أفلح في تنظيمهم وضبطهم.

إلا أني كنت أراهم في كل يوم عدة مرات يقفون صفاً مستقيماً، ويقف أحدهم أمامهم، فلا يفعلون أي حركة إلا إذا فعل، في انضباط تام، ونظام دقيق، وطاعة مطلقة لمن يتقدمهم.

فقلت لهم: ها أنتم هؤلاء منضبطين. فقالوا: هذه صلاة، فبدأت أسألهم عن الصلاة، فأخبروني بها، وأنها ركن من أركان الإسلام، فقلت: والله إن الدين الذي قدر على أن يُنَظِّمكم يا فوضويون إنه لدين الحق، فبحثت عن الدين الإسلامي، فهداني الله له، وكان ذلك سبب إسلامي.”[5] انتهى.

فهذه إذاً هي الصلاة، وهذا هو تأثيرها على الناس. ولكن لأن الناس لم يفهموا حقيقة الصلاة وأن أثرها لا بد أن يتعدى إلى الواقع الحياتي: “إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ” (العنكبوت: من الآية 45)، صار انضباطهم مقصوراً على الصلاة المكتوبة.

صلاة الجماعة تُنظِّم العلاقة بين المسلمين

المسلم يتعلم من صلاة الجماعة كثيراً من الأخلاق الحميدة التي من شأنها أن تنظم علاقته بالآخرين داخل وخارج المسجد، ففي المسجد يمارس المسلم أعمالاً وحركات فيها إشارات وإيحاءات وتوجيهات عملية لما يجب عليه فعله في جوانب الحياة الأخرى، سواء أكان فرداً عادياً أم ممن استرعاه الله على خلق من خلقه.

فصلاة الجماعة تنظم العلاقة بين المسلمين بعضهم ببعض حكاماً ومحكومين. فلو تأملنا لوجدنا أن هناك تشابهاً بين بعض الأعمال التي يمارسها الإمام في صلاة الجماعة وبين تلك التي يجب على الحاكم المسلم (إمام المسلمين) أن يمارسها في حكمه. وكذلك نجد أن هناك تشابهاً بين بعض الأعمال التي يمارسها المسلم (المأموم) في صلاة الجماعة وبين تلك التي تجب عليه أن يمارسها كمواطن مسلم في الدولة المسلمة.

وسنعرف كيف أن لصلاة الجماعة – لو تم المحافظة عليها كما أمر النبي r – أثر كبير في حياتنا اليومية، وللمسنا ذلك الأثر في علاقاتنا الحياتية مع أنفسنا ومع الآخرين. فمن صلاة الجماعة يتعلم الحاكم المسلم واجباته وحقوقه، ومنها يتعلم الفرد المسلم واجباته وحقوقه، وهي تذكير يومي بما يجب أن يكون عليه الحاكم والمحكوم والراعي والرعية، وهي ممارسة عملية لأداء الوجبات وإعطاء الحقوق، وبها ستُحل كثير من مشاكلنا التي نعاني منها طوال عقود من تنافر بين الراعي والرعية، واختلاف يتفاقم من وقت إلى آخر. ولو تأملنا في مكانة الأمة في صدر الإسلام لوجدناها قد نالت مكانة عالية بين الأمم الأخرى، ولو بحثنا عن سبب هذه المكانة لوجدنا أن التزام الحكام والمحكومين بصلاة الجماعة في المساجد كان من الأسباب الجلية في تمكين الله لهذه الأمة، وحينما ترفع الحاكم عن صلاة الجماعة مع المسلمين، نسي واجباته وتمسك بحقوقه، وتحول إلى مستبد طاغية لا يخشى الله تعالى.

الصلاة: معيار المفاضلة

وقد كان الصحابة يرون في أهلية الرجل للصلاة بالمسلمين أهلية لإمامتهم في أمور كثيرة. فهذا علي بن أبي طالب t يرى في اختيار النبي r لأبي بكر للصلاة بالمسلمين عند مرضه – عليه الصلاة والسلام – أهلية في أن يرضوه لدنياهم كما رضيه النبي r لدينهم. يقول t: “… ولكن رسول الله r لم يُقتل قتلاً ولم يمت فجأة، مكث في مرضه أياماً وليالي، يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس، وهو يرى مكاني، ولقد أرادت امرأة من نسائه أن تصرفه عن أبي بكر فأبى وغضب، وقال: (أنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلي بالناس)، فلما قبض الله نبيه r نظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله r لديننا، وكانت الصلاة أصل الإسلام، وهي أمير الدين، وقوام الدين، فبايعنا أبا بكر وكان لذلك أهلاً.”[6]

يقول الدكتور أبو فارس بعد أن سرد أدلة بعض أهل السنة في أن خلافة أبي بكر ثبتت بالنص من الرسول r، وذكر منها حديث: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، قال: “والناظر في هذه الأحاديث يجد أنها لا تنص صراحة على إمامة أبي بكر بل كلها يشير إلى منزلة أبي بكر في الإسلام، ومنزلته من رسول الله r، وتشير إلى مناقبه التي تؤهله ليكون خليفة رسول الله r، وكأنها إرشاد للمسلمين ليختاروا أبا بكر t ليكون خليفة الرسول في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.”[7]


[1] ) صحيح أخرجه مسلم عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري t

[2] ) أخرجه الإمام أحمد والنسائي

[3] ) زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد بن رجب. جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم صـ216ـــ.

[4] ) الإمام أبي الفتح ابن دقيق العيد. شرح الأربعين النووية.

[5] ) د. أحمد بن محمد العليمي – الانضباط والطاعة وأثرها التربوي صـ8.

[6] ) الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي – تاريخ الخلفاء صـ142.

[7] ) د. محمد عبد القادر أبو فارس. النظام السياسي في الإسلام. صـ227

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى