المسجد: الركن الأول في بناء الدولة المسلمة
كتاب المجتمع المثالي الذي ننشده - إيحاءات من صلاة الجماعة
عندما خرج النبي r من مكة باحثاً عن وطن يقيم فيه دولة الإسلام، واستقر أمره في المدينة المنورة، قام بتأسيس دعائم هذه الدولة، فكان المسجد هو الركيزة الأولى والدعامة الأهم من دعائم هذه الدولة الإسلامية الوليدة، فشرع النبي r في تحديد موضع المسجد وخطط لبنائه وقام هو وأصحابه بتنفيذ مخطط البناء.
قام بذلك “لأنه يعتبر المسجد أول وأهم ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي المتماسك، وإن حاجة الأمة المسلمة إلى المسجد لا تقل أهمية عن حاجتها إلى الإسلام نفسه، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه.”[1]
ولقد أجاد الدكتور الوشلي في كتابه المسجد وأثره في تربية الأجيال ومؤامرة أعداء الإسلام عليه في تبيان أثر المسجد على الأجيال المسلمة، ودوره الفعال في صياغة شخصية المسلم، استحسنا ذكر جزء منه هنا، حيث يقول: “فالبيت المسلم ينجب الأبناء ويرعى طفولتهم ونشأتهم الأولى، ثم عليه بعد ذلك أن يدفع بهم إلى المسجد عندما يشبون ويتجاوزون مرحلة الطفولة ليصيغهم صياغة ربانية، وينشأهم تنشأة إسلامية.
البيت المسلم يغرس في نفوس النشء الفضائل والآداب منذ نعومة أظفارهم، والمسجد يتلقى هذه الأجيال فيصقلها بالعبادة والخشوع لله والتدبر والتفكر في ملكوته سبحانه ويطبعهم على الجدية والرجولة.
وفي المسجد تتعلم الأجيال الصاعدة كيف تهدأ أو تسكن وترعى حرمة المساجد، فلا صياح ولا صخب ولا حديث بأصوات مرتفعة ولا بيع ولا شراء ولا نشدان ضالة أو نحو ذلك.
وفي المسجد تتعلم الأجيال النظام والدقة والاستواء والانخراط في صفوف مع المسلمين، وفيه التبكير بالذهاب إليه وهو درس في الاستباق إلى الخير بإدراك الصف الأول لغير الصبيان. وفي المسجد يتعلم الناس التواضع والمساواة والعطف والبر والالتزام بكل واجب والطاعة والامتثال.
وفي المسجد يتعلم الناس جميعاً – صغاراً وكباراً – يتعلمون العلم، ويتفقهون في أمور الدين، ويَعلَمون من أحوال إخوانهم المسلمين في البلاد النائية ما لابد أن يعلموه عنهم، حتى يمدوا إليهم يد العون إن كانوا في حاجة إلى العون، والرأي والمشورة إن كانوا محتاجين إلى رأي ومشورة. وإن خطبة الجمعة ودرس المسجد الذي تُلقى فيه لمن أهم وسائل تحقيق هذه الأمور. وهكذا كانت الخطبة ودروس المسجد على عهد رسول الله r. ولو فعل ذلك خطباء المساجد ومدرسوه لعصموا شباب المسلمين عن الانحراف، ولحجزوهم عن الانسياق وراء المذاهب الهدامة الخادعة، والتيارات الفاسدة، وحالوا بينهم وبين الانحراف عن الحق الذي لا حق سواه وهو الإسلام. وفي المسجد يتعلم الناشئ كيف يتفقد أخاه المسلم في الصلاة إذا غاب عن المسجد، فيعوده إذا مرض ويعينه إن وجده محتاجاً إلى عون. وهذا تدريب عملي على واجبات الأخوة الإسلامية، وهو درس في المودة والألفة التي تجب أن تسود علاقات المسلمين بعضهم ببعض وتحكم مسارها.
وفي المسجد تنصقل شخصية المسلم ويزول عنها ما يحتمل أن يكون قد علق بها من عيوب اجتماعية كالانعزالية والتواكلية والأنانية، حيث يهيء المسجد لرواده مجال الانطلاق في المجتمع والتعرف على الناس والتآخي معهم ومناصرتهم ما داموا على الحق.
من أجل ذلك كله كانت حاجة المسلمين أفراداً وجماعات وحكاماً وقادة إلى المسجد شديدة، وكان إسراع رسول الله r قبل كل شيء إلى بناءه حال وصوله إلى المدينة دليلاً واضحاً على ذلك، وسرعان ما غدا المسجد رمزا لما يتسم به الإسلام من شمولية وتكامل. فأصبح مركزاً روحياً للممارسة الشعائرية التعبدية، ودائرة سياسية لتوحيد علاقة الدولة في الداخل والخارج، ومدرسة علمية وتشريعية يجتمع في ساحته أصحاب رسول الله r وتدار في بحبوحته الندوات وتلقى على منبره المتواضع التعاليم والكلمات، ومؤسسة اجتماعية يتعلم المسلمون فيه النظام والمساواة ويمارسون التوحد والإخاء والانضباط.”[2]
ويذكر الغزالي رحمه الله أن ” مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام.”[3]
ورأى الأعداء هذه المكانة للمسجد، فعقدوا العزم على أن يفرغوه من مكانته، وأن يبعدوه عن منصة الريادة والقيادة، وأن يجعلوه ككنائسهم ومعابدهم وديرهم، فارغاً من رسالته العظمى في التوجيه المادي والروحي، وتعليم العلوم والمعارف، وتخريج القضاة والعلماء، ومكان لممارسة الشورى والمناصحة، وساحة لإعداد الجيوش وتدريبهم … واغتنموا جهل المسلمين بهذه المكانة، وتفرقهم وضعفهم. “فكان من نتائج ذلك السيئة أن فارقت روح المسجد كل تلك العلوم والمعارف التي كانت تدرس فيه، وتلك النشاطات المتنوعة في الاجتماع والسياسة والجهاد.
فخرج القضاء من المسجد ففارقته روح المسجد من الورع والتقوى. وخرج العلم والتعلم من المسجد ففارقته روح المسجد من الإخلاص والصلاة.
وخرجت الشورى والمناصحة بين المسلمين عن المسجد ففارقتها روح المسجد من الوحدة والوئام وسداد الرأي وعدم الاستبداد.
وخرج إعداد الجيوش للجهاد في سبيل الله عن المسجد ففارقته روح المسجد من البذل والتضحية والاستشهاد.
وهكذا كل عمل خرج عن المسجد فارقته روح المسجد، وإذا فارقت روح المسجد عملاً من الأعمال فماذا بقي لهذا العمل من أسباب النجاح والفلاح.”[4]
[1] ) عبد الله قاسم الوشلي. المسجد وأثره في تربية الأجيال ومؤامرة أعداء الإسلام عليه – سلسلة نحو النور (8)، صـ26.
[2] ) المصدر السابق صـ28.
[3] ) محمد الغزالي – فقه السيرة صـ190.
[4] ) عبد الله قاسم الوشلي. المسجد وأثره في تربية الأجيال ومؤامرة أعداء الإسلام عليه – سلسلة نحو النور (8)، صـ24.