قد يعرف كثير من المسلمين كثير من هذه المفاهيم والأحكام والتشريعات، ولكن لا يظهر أثرها على المجتمع نتيجة للممارسات الضعيفة، وكون صلاة الجماعة تمثل مجتمعاً مصغراً للمسلم يمارس فيه هذه التشريعات بصورة مصغرة، فهذا يمثل تدريباً له وممارسة عملية لكي ينطلق بعدها إلى المجتمع الحقيقي الذي يتطلب ممارسة هذه التشريعات والأخلاق بصورة أكبر. فصلاة الجماع هي المدرسة الأولى التي يتعلم فيها المسلم كل هذه التعليمات، لينطلق مع أقرانه وإخوانه في بناء المجتمع المثالي الذي نحلم به.
ومن خلال ما تقدم نجد أن شمولية الإسلام تدفع المسلم إلى أن يلتزم بهذا الشمول اعتقاداً وعملاً، وأن يرى هذا الشمول في جميع الشرائع التعبدية ومنها صلاة الجماعة، وان يتحرر من المفاهيم المغلوطة التي تصور الإسلام بصورة قبيحة، وتظهره بمظهر لا يصلح للتطبيق في زماننا هذا.
ومن هنا – أيضاً – نجد أن المسلمين يستوحون من صلاة الجماعة أموراً عظيمة تربطهم بمجتمعهم، وأمتهم، وتعكس شمولية الإسلام واستيعابه لكل جوانب الحياة. فصلاة الجماعة توحي إلى المسلمين بأهمية جماعة المسلمين، وضرورة إقامة الدولة الإسلامية وتدعيمها وتقويتها والمحافظة عليها. وألا يكون الفرد المسلم مصدر ضعف للدولة المسلمة. لأن في قوته – وهو فرد في جماعة المسلمين – قوة للدولة المسلمة، وفي ضعفه ضعف لها، وفي قوة ترابطه مع من حوله، قوة ترابط الجماعة المسلمة، وفي تفككه وتنافره تفكك للجماعة المسلمة.
ويتذكر المسلم من صلاة الجماعة أن هناك ثوابت تجمعه مع من حوله من المسلمين، وأنه مهما اختلف المسلمون على الفروع، فإن الثوابت – وهي كثيرة – تجمعهم وتوحدهم، فيتغلبون على خلافاتهم، بل ويجعلون من هذه الخلافات منطلقاً لتحري الأصوب وتصحيح الأخطاء.
ويتعلم المسلم من صلاة الجماعة أهمية العمل الجماعي في بناء الدولة المسلمة وتدعيم الصف المسلم، وأن العمل الفردي لن يقدر أن يحافظ على قوة المسلمين وتماسكم. بل إن الفلاح والنجاح لن يكون إلا بعمل جماعي منظم تنصهر فيه النزعات الفردية، وتذوب فيه الأنانية المقيتة، ويتربى فيه المسلمون على التعاون والتكافل.
ويستوحي المسلم من صلاة الجماعة دوره الهام في اختيار الحاكم المسلم، وأن اختياره له ليس مبنياً على المصالح الضيقة أو العصبية المقيتة، بل لا بد أن يكون وفق شروط شرعية تعين على التغلب على الخلافات والنزاعات، وتساهم في تفوق المجتمع المسلم وتماسكه وتقدمه. وعلى المسلم ألا يكون سببا في اختيار الفاسق، لأنه لن يقوم بالمهام التي ينبغي أن يقوم بها الحاكم المسلم على الوجه المطلوب، بل على العكس من ذلك سيكون وبالاً على الإسلام والمسلمين.
ويستوي المسلم من صلاة الجماعة علاقة الحب والمودة التي ينبغي أن تربط الحاكم برعيته، وأن هذا الحب وهذه المودة، والصلوات والنصائح هي الوسائط التي يستخدما الجميع للتواصل فيما بينهم. أما إذا غابت هذه العلاقة وحل محلها الكره والشقاق، فإنه لا خير فيها، كما أنه لا خير فيمن يتولى قوماً هم له كارهون.
ويتذكر الحاكم المسلم – من صلاة الجماعة – المسئولية الملقاة على عاتقه، وواجباته التي يجب عليه القيام بها. وانه لا ينبغي له أن يحتجب عن رعيته، لأنه أيما حاكم احتجب دون حاجة رعيته وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة. وأن من واجباته تحمل ما عجزت عنه رعيته، والرفق بهم من غير لين، والعدل بهم، والنصح وتفقد أحوالهم والحرص على وحدتهم، والاجتهاد لهم. وان من الاجتهاد: أن يحرص على توفير حياة كريمة وآمنة لرعيته، وأن يحصن شعبه بالعلم، وأن يحرص على وحدة الصف ونبذ الخلاف، وأن يحرص على إسناد الأمر إلى أهله ومتابعة من أسند الأمر إليهم، وأن يوفر لرعيته الأمن.
ويستوحي الحاكم المسلم أيضاً من صلاة الجماعة أن عليه أن يختار له بطانة صالحة تعينه على القيام بتلك الواجبات العظيمة، وان يعامل الناس بالتساوي. ويفهم الحاكم أيضاً من صلاة الجماعة أنه ليس فوق القانون، بل عليه أن يكون أكثر حرصاً على تطبيقه، وأكثر التزاما به. ويتذكر الحاكم أيضاً أنه إن لم يستطع القيام بمهامه خير قيام فعليه أن يستخلف من يقوم بها ممن لديه القدرة، أو ليعتزل ويدع لرعيته أن يختاروا لهم من يقدر على ذلك.
ومنها – أيضاً – يستلهم الفرد المسلم دوره وواجبه تجاه مجتمعه وحكامه. فصلاة الجماعة تذكره بواجبه نحو مجتمعه، وبدوره في تكوين الدولة المسلمة، وأن يكون لبنة صالحة، وأن يبادر إلى ذلك وألا يتلكأ أو يتردد.
ويستوحي المسلم من صلاة الجماعة أهمية الوعي والإدراك، وأن الوعي والإدراك أمر لا بد منه للفرد المسلم في الدولة المسلمة، حتى ينفع الله به الإسلام والمسلمين، ويكون عاملاً إيجابياً في تقدم وارتقاء مجتمعه. ويتعلم المسلم من صلاة الجماعة أهمية وحدة الصف المسلم ورصّ الصفوف، فيحرص على ذلك، بل ويكون سداً منيعاً ضد من يسعى إلى تفريق الصف المسلم، وتشتيت جمع المسلمين. ويفهم أيضاً أنه لا ينبغي له أن يكون مصدر قلق وخوف للآخرين، وعليه أن يتجنب أذية إخوانه المسلمين وترويعهم.
ومن صلاة الجماعة نجد دور المرأة الإيجابي في بناء وتدعيم وتماسك المجتمع المسلم، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي المشاركة مع الرجال في أعمال الجهاد، وأنها جزء لا يتجزأ من المجتمع المسلم، ومن واجبها أن تسهم في هذا المجتمع بما تستطيع.
وكذلك يجد المسلم أن للأطفال مكان في المجتمع المسلم، وأن الإسلام اعتنى بالطفولة عناية لم يسبق لها مثيل، ولن يكون لها مثيل، وأنه عندما يجد أطفالنا الرعاية الكافية، والتربية الصحيحة، والتعليم الصافي، سنجد فيهم نماذج رائعة في الشجاعة والقيادة وحفظ الأسرار والصدق وتحمل المسؤولية الدينية والوطنية.
ويتعلم المسلم أن الحرية المنضبطة التي ليس فيها تعدٍ على الآخرين ولا تجاوزٍ لحدود الله مكفولة لكل فرد في المجتمع المسلم. وأنه إذا غابت الحرية ظهر الاستبداد وظهر المستبدّون، ووجد من ينتصر لرأيه ويرفض الآخرين. وان الاختلاف ووجود التباين في وجهات النظر أمر طبيعي، جعله الله من سنن الحياة. وأنه حينما تضيق مساحة الحرية يضيق معها القبول بالرأي الآخر وخاصة المعارض منه.
كما يتعلم المسلم من صلاة الجماعة أن عليه طاعة ولي الأمر. وأنه بالسمع والطاعة يحصل الاستقرار في المجتمع المسلم، ويمتلك المسلمون عنصر القوة للتغلب على الأعداء، وبه يهابهم الأعداء. ويفهم المسلم أيضاً أن هذه الطاعة لا تكون في معصية الله، وإنما تكون في المعروف، وان الأمور الاجتهادية التي لا يوجد فيها تعارض مع شرع الله يجوز متابعة الإمام فيها. وأنه ينبغي للمسلم أن يقيل عثرة الإمام إن تعثر أو أخطأ، مع الاستمرار في نصحه.
ويستلهم المسلم من صلاة الجماعة دوره في مراقبة الحاكم المسلم بغرض تقويمه ونصحه، وان المراقبة تبدأ باختيار الحاكم وتستمر بالنصيحة له ومقاضاته إن تعدى وظلم، وتنتهي بعزله إن أخل بالشروط.
وكذلك يجد الجميع دورهم تجاه وطنهم، فيجدوا أن وطن المسلم لا ينحصر في حدودٍ جغرافية ضيقة، بل إن الوطن في الإسلام هو كل قطعة أرض تقل على ظهرها من ينتمي إلى هذا الدين، له من الحب والإخلاص والقداسة والوفاء ما لبقعة الأرض التي ترعرع فيها المسلم ونشأ. وأن حب الوطن في الإسلام هو جزء من الإيمان الذي لا يكفي لإثباته كلمات تُلاك باللسان أو عبارات تُرسم على الجدران، وإنما لا بد من عمل يبرهن صدق هذا الحب، ويؤكد وجوده. وأن على المسلمين أن يتجهوا بقدراتهم وطاقاتهم نحو بناء وطنهم وصيانته والمحافظة عليه. وأن أبناء الوطن الصادقون هم بُناته الحقيقيون، وهم الذين يحرصون على بناء وطنهم وعمارته، ويسعون في رقيه وازدهاره وتقدمه، ويتعاونون في ذلك، ويحافظون على مكتسبات وثروات وطنهم، ويدافعون عنها، ويقفون صفاً واحداً ضد الفساد والمفسدين.
ويجد المسلم أن الوطن مدرسة كبيرة يتعلم فيها ومنها الكبير والصغير، والذكر والأنثى، يتربون على القيم والأخلاق والأعراف. وأن الدفاع عن الوطن واجب شرعي. وأن على المسلمين أن يحذروا من الأوكار التي يتخذها الأعداء منطلقاً لهم للكيد بأبناء الوطن وبمقدساتهم ومعتقداتهم، والتي تملك مسميات براقة، وشعارات جذابة ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله الكيد والمكر والدسائس ضد الإسلام والمسلمين، والتي يتخذها الأعداء ستاراً لمؤامراتهم، ويذرون بها الرماد على العيون.
وأخيــراً
قد يتساءل الكثيرون عن إمكانية وجود مثل هذا المجتمع، وهل سيأتي زمان يوجد فيه الفرد المسلم الذي يعرف حقوقه وواجباته، ويؤدي ما عليه من واجبات! وهل سنجد فيه الحاكم المسلم الذي يعرف ماله من حقوق وما عليه من واجبات، فيؤدي ما أوجبه الله عليه! بل إن الكثيرون يستبعدون هذا الأمر، دفعهم إلى هذا التشاؤم يأسهم من الإصلاح، وغفلة السواد الأعظم من أمة محمد r عن أمور كثيرة من واجبات وحقوق أقرها الله سبحانه وتعالى.
وقد تحقق هذا المجتمع في عهد النبي r، وفي عهد الخلفاء الراشدين من بعده، وهو أمر قابل للتحقق متى توفرت الشروط اللازمة لذلك، وقد بشّر النبي r بإمكانية وجود مثل هذا المجتمع مرة أخرى، مجتمع يسير على منهاج النبوة، ويقتفي أثر الخلفاء الراشدين. قال رسول الله r: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ويلقى الإسلام جراءة في الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً، ولا تدع الأرض من نباتها ولا بركاتها شيئاً إلا أخرجته”. ذكره حذيفة مرفوعاً ورواه الحافظ العراقي من طريق أحمد وقال هذا حسن صحيح.
وفي هذا الحديث نجد أن النبي r قد قسم تاريخ هذه الأمّة إلى مراحل عدة. أولها “مرحلة حكم النبوة“، وقد كانت في حياته r. والمرحلة الثانية “مرحلة الخلافة على منهاج النبوة” وهي حكم الخلفاء الراشدين، وكانت من بداية استخلاف أبي بكر t وحتى مقتل علي بن أبي طالب t، ومن العلماء من أدخل فترة إمارة الحسن بن علي t سبط رسول الله r فيها. وقد جاء في الحديث الصحيح أنها ثلاثون سنة. ثم المرحلة التالية وهي “مرحلة الملك العاضّ” وهو الحكم الذي فيه ظلم، وإن تفاوتت نسبة الظلم من حكم لآخر، وتبدأ هذه المرحلة من حكم بني أمية وتستمر حتى سقوط الخلافة العثمانية في مطلع القرن العشرين الميلادي. والمرحلة الرابعة هي “مرحلة الحكم الجبري” وهذه المرحلة بدأت بعد سقوط الخلافة العثمانية إلى عصرنا الحاضر. والحكم الجبري هو الذي جاء عن طريق الانقلابات العسكرية، أو الأنظمة الوراثية، أو الانتخابات المزيفة، وهذه المرحلة بدأت تتهاوى وتقترب من نهايتها. ثم تأتي المرحلة الخامسة وهي “مرحلة الخلافة على منهاج النبوة” وهي المرحلة التي بشر بها النبي r والتي ينتظرها المؤمنون، وهذه المرحلة – كما في الحديث – تقوم على منهاج النبوة الذي يقر لكل ذي حق حقه، والذي يهدف من تشريعاته إلى إيجاد الفرد المسلم والمجتمع المسلم والحاكم المسلم والدولة المسلمة، فيلتزمون – جميعهم – بشرائع هذا الدين التي تكفل الحقوق وتضمنها.
{وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} الاسراء 51.