قراءة كتاب

المبحث الثاني: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بإمام المسلمين (الحاكم) (5)

المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني

أن يحرص على وحدة الصف ونبذ الخلاف

ومن واجبات الحاكم المسلم أن يحرص على تماسك المجتمع المسلم ووحدتهم، فقد حرص النبي r على وحدة الصف المسلم فكان أول عمل قامة به في المدينة – بعد بناء المسجد، وهو يؤسس للدولة الإسلامية – أن آخى بين المهاجرين والأنصار، “وقد كانت هذه المؤاخاة حكمة فذة، وسياسة صائبة حكيمة، وحلاً رائعاً لكثير من المشاكل التي يواجهها المسلمون.”[1] 

وقد خرج ذات يوم وقد اشتد الخلاف بين الأوس والخزرج، فغضب غضباً شديداً وقال: “أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم![2]، وسارع إلى رأب الصدع بين أفراد المجتمع المسلم.

ولا شك أن توحد الصفوف عامل رئيس في بقاء الأمم، ودوامها، وأن الاختلاف إذا ظهر واتسع فهو إيذان بضعف الأمة وانهيارها. يقول محمد الغزالي: “لا ريب أنّ توحُد الصفوف واجتماع الكلمة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة، ودوام دولتها، ونجاح رسالتها. ولئن كانت كلمة التوحيد باب الإسلام، فإن توحيد الكلمة سر البقاء فيه، والإبقاء عليه، والضمان الأول للقاء الله بوجه مشرق وصفحة نقية.”[3]

وينبغي على الحاكم أيضاً أن يحرص على أن تكون لغة الود والإخاء هي الغالبة، وان تكون هي الثقافة السائدة في المجتمع. والإسلام حريص على أن يسود الود والإخاء المجتمع المسلم، فقد كان الرسول r يتعهد الصحابة ويرشدهم إلى الطريق لذلك، فكان أول ما قاله في المدينة: (أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) صحيح البخاري. وكان يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) رواه الترمذي وابن ماجة. ويقول: (المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله) رواه مسلم. ويقول أيضاً: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام) صحيح البخاري. وغيرها من الأحاديث الذي فيها هداية للطريق الموصل إلى الحب والوئام ووحدة الصف.

وهذا لا يعني انتهاء الاختلاف في الأفهام والتباين في الآراء، فهذه سنة الله في الحياة، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}هود 118-119، ونجد اختلاف الأفهام وتباين الآراء باديا عند الصحابة – رضوان الله عليهم – عندما حث النبي r على المسير إلى بني قريضة – بعد غزوة الأحزاب – فقال مخاطباً الصحابة الكرام رضي الله عنهم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يصليَّن العصر إلّا في بني قريضة) فاختلفت فهوم الصحابة لهذا الأمر، ولكن لم تختلف قلوبهم، ووقفوا صفاً واحداً أمام الأعداء.

وعلى الرغم من أن الاختلاف سنة الله في الحياة، ينبغي على الحاكم أن يحرص على ألا يتنامى هذا الاختلاف حتى يصير خلافاً يؤدي إلى التنازع والتباغض، بل يجب عليه أن يجتهد في نبذ الخلافات والتنازعات المفضية إلى الفشل والتباغض، قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال46. وقد كان الإمام الشهيد حسن البنا حكيماً عندما أفتى بترك صلاة التراويح بعد أن رأى أن اختلاف المسلمين على مشروعيتها وعلى عدد ركعاتها أدى إلى اختلاف القلوب والتنازع حتى وصل إلى الاقتتال، وعلّل ذلك بأن صلاة التراويح سنة وأخوة المسلمين ووحدتهم فرض على كل مسلم.

أن يحرص على إسناد الأمر إلى أهله ومتابعة من أسند الأمر إليهم

ويدخل في الاجتهاد للرعية والنصح لهم حرص الحاكم على اختيار القوي الأمين عند توليته للآخرين، ممن يجد فيه الحرص على الحقوق وأداءها إلى مستحقيها، يقول الله عز وجل على لسان ابنة شعيب: (يا أبتِ استأجره إنّ خير مَن استأجرت القويّ الأمين)، فالقوي الأمين راع لأموال المسلمين حريص عليها، حفيظ على أعراض المسلمين وعلى دينهم. ولقد أوضح يوسف u أن سبب اختياره أن يكون على خزائن الأرض امتلاكه المؤهلات لهذا المنصب: (إنيّ حفيظٌ عليم). يقول الدكتور عبدالكريم زيدان: “أما اختيار الموظفين الأكفاء، فهذا شيء ضروري، لأن الخليفة لا يمكنه أن يباشر أمور الناس بنفسه لأن ذلك فوق طاقته، بل ويستحيل عليه حتى لو أراده. وإنما يباشر أمور الناس بواسطة نوابه أي الموظفين الذين يختارهم، فعليه أن يتخير الكفء الأمين. ومرد الكفاءة إلى القدرة على ما يتولاه، ومرد الأمانة عدم التفريط بشؤون ما ولي عليه من أمور، وقد أشار القرآن الكريم إلى قانون تولي الأمور الواجب مراعاته من كل حاكم وولي أمر، قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} القصص26، فإذا وُفّق الخليفة إلى حسن اختيار الموظفين الأكفاء الأمناء حكموا بالعدل وحفظوا حقوق الناس ومنعوا عنهم الظلم، وشعر الناس بالأمن والأمان والاطمئنان، وانكمش أولو الأطماع وأهل البغي، ولم يستطع قوي أن يعتدي على ضعيف لأن الدولة أقوى منه، ولم يخش الضعيف المحق من عدوه القوي لأن الدولة مع المحق وإن كان ضعيفا.”[4]

وقد كان النبي r يسند الأمر إلى من يثق بقدرته وكفاءته، فقد ولّى على الجيش في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحه. وولى أسامة بن زيد على الجيش قبل أن يموت، وولى على المدينة – أثناء غيابه في الغزوات – عدداً من الصحابة . وكان في المقابل يرد من لا يقدر على حمل المسؤولية – مهما كانت منزلته من رسول الله – وكذا رد من حرص عليها، فعن أبي ذرٍ t قال: قلت: يا رسول اللَّه ألا تَستعمِلُني ؟ فضَرب بِيدِهِ على منْكبِي ثُمَّ قال: «يا أبا ذَرٍّ إنَّكَ ضَعِيف، وإنَّهَا أَمانة، وإنَّها يوم القيامَة خِزْيٌ ونَدَامةٌ، إلاَّ من أخَذها بِحقِّها، وأدى الذي عليهِ فِيها» رواه مسلم. وعن أبي موسى الأَشعريِّ t قال: دخَلتُ على النبي r أنَا وَرَجُلانِ مِنْ بني عَمِّي، فقال أحَدُهُمَا: يا رسولَ اللَّه أمِّرنَا عَلى بعضِ مَا ولَّاكَ اللَّه U، وقال الآخرُ مِثْلَ ذلكَ، فقال: «إنَّا واللَّه لا نُوَلِّي هذَا العَمَلَ أحداً سَأَلَه، أو أحَداً حَرَص عليه».

وقد حذر النبي r من إسناد الأمر إلى غير أهلة، وجعله من علامات الساعة. فعَنْ أبي هُريْرةَ t قَالَ بيْنَمَا النَّبيُّ r في مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جاءَهُ أعْرابِيُّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رسُولُ اللَّه r يُحَدِّثُ، فقَال بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِه ما قَالَ، وقَالَ بَعْضُهمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟» قَال: ها أنَا يَا رسُولَ اللَّه، قَالَ: «إذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانةُ فانْتَظِرِ السَّاعةَ» قَالَ: كَيْفَ إضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إذَا وُسِّد الأمْرُ إلى غَيْرِ أهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعة» رواهُ البُخاري. وقد سمّى الرسولُ r إسناد الأمر إلى غير أهله خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، ففي الحديث: (من استعمل رجلا من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) رواه البيهقي والحاكم وقال الحاكم صحيح الإسناد.

وقد فقه الخلفاء الراشدون هذا الأمر، فحرصوا على تولية أصحاب الكفاءات وتغليب المصلحة العامة في ذلك على المصلحة الخاصة. ولم يكتفوا باختيار الأصلح والأكفأ منهم بل كانوا يحيطونهم بنصحهم المتواصل ومتابعتهم المستمرة.

فهذا عمر t كان يرى الكفاءة أساس تولية العمل، ولم يكن ينظر إلى شيء آخر، كان يقول: (أريد رجلاً، إذا كان في القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم، كان كأنه رجل منهم). وكان إذا استعمل رجلاً على عمل، كتب عليه كتاباً، وأشهد عليه رهطا من المهاجرين والأنصار، وإذا بعث عماله إلى الأمصار قال لهم: (إني لم أبعثكم جبابرة، ولكن بعثتكم أئمة، فلا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم – أي لا تطيلوا أمد إقامتهم في الحرب بعيدين عن أهلهم ونسائهم، ولا تمنعوهم فتظلموهم). وكان من قوله t: (إني لأتحرج أن أستعمل الرجل، وأنا أجد أقوى منه)، وكان يقول: (من استعمل رجلاً لمودة أو لقرابة، لا يشغله إلا ذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)، وكان يقول أيضاً: (من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله)[5].

وينبغي على الحاكم ألا يكتفي بتولية الأكفأ والأصلح، بل لا بد من مراقبتهم في أعمالهم، وتقويمهم إن حصل منهم خطأ. يقول الدكتور عبدالكريم زيدان: “ولا يكفي أن يُعيّن الخليفة الأكفاء الأمناء، بل عليه أيضاً أن يراقبهم في أعمالهم، فقد (يخون الأمين ويغش الناصح) كما يقول الفقهاء. وحتى إذا استبعدنا خيانتهم وغشهم، فلا يمكننا استبعاد خطئهم، وظلم الناس خطأ كظلم الناس عمداً من جهة لحوق الضرر بالمظلوم وكرهه للظلم. فلا بد من المراقبة المستمرة والمحاسبة الدائمة للموظفين حتى لا تقع خيانة ولا غش، ويقلّ الخطأ ويعرف الناس شدة حرص الخليفة على العدل ومنع الظلم، ويخرج هو من عهدة الخلافة ومسؤولية الحكم.”[6]

هذا عمر t لم يكن حرصه في تولية الأكفأ والأصلح كافياً لأداء الأمانة، بل كان يرى أنه لابد من دوام المراقبة لمن ولّاهم. كان يقول t: (أترون لو أني وليت عليكم خيركم، أكنت قد أديت الأمانة ؟ قالوا: نعم: قال: لا، حتى أنظر ما يصنع.) أي أنه لن يكون مؤدياً للأمانة التي تحملها حتى يرى ما يصنع عماله الذين ولّاهم على الأمصار، أيقومون بواجبهم أم يفرطون؟ وكان يعقد في كل سنة مؤتمرا لعماله في موسم الحج، ليسألهم عن أحوال البلاد وشؤونها، وسير الإدارة فيها.

وكان له مفتشون ينزلون الأمصار على غير علم من ولاتها، فيستقصون سيرة الولاة وأحوالها من أفواه الشعب، ويرونه بأعينهم، فقد اشتكى رجل إلى عمر عامله على مصر، فأرسل عمر رجلين، فقال: سلا عنه فإن كان كذب عليه فأعلماني، وإن كان صدق فلا تملكا من أمره شيئاً حتى تأتياني به. فسألا عنه فوجداه قد صدق عليه، فاستأذنا ببابه، فقال: أن ليس عليه إذن. فقالا: ليخرجن إلينا أو لنحرقن بابه، وجاء أحدهما بشعلة من نار، فلما رأى ذلك آذِنه أخبره فخرج إليهما. فقالا: إنا رسولا عمر لتأتيه. فقال: إن لنا حاجة نتزود، قالا: ما أنت بالذي تأتي أهلك، فاحتملاه فأتيا به عمر..[7]

وعند المقارنة بين المجتمعات المتقدمة وتلك التي تقبع في ذيل القافلة، سنجد أن المجتمعات المتقدمة هي مجتمعات يحرص حُكّامها على تولية أصحاب الكفاءات والخبرات، في حين أن حكام المجتمعات المتأخرة لا يحرصون على تولية الأصلح والأكفأ، وإنما يعتمدون في توليتهم للآخرين على معيار الولاءات الضيقة.

وإذا غاب مبدأ تولية الأكفأ والأصلح وأُسندت الأمور إلى غير أهلها، وإلى من ليس لهم خبرات أو قدرات أو كفاءات للقيام بما أُسند إليهم، فَسَدَ الأمر وضاعت الحقوق. يقول الدكتور القرضاوي: “إن كثيراً من المناصب السياسية والمدنية تعطى لأناس أقل ما يقال فيهم: أنهم بحكم سنهم وخبرتهم – غير محنكين، وغير مدربين على العمل في هذه الميادين، وفي هذا عدة أضرار جسيمة منها:

  • إفساد المناصب المدنية والسياسية بإعطائها لمن لا يحسنها. وفي هذا خيانة للأمة، وتعريضها للهلكة. وفي الحديث: “إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة” قيل: وكيف إضاعتها؟ قال: “إذ وُسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة” رواه البخاري.
  • إغضاب العناصر الأخرى التي ترى أن هذا المجال مجالها، وبذر بذور (النقمة) عندها على هؤلاء (المغِيْرين على مواقعها) بغير حق.
  • فتح باب (التطلعات) لهذه المناصب أمام الآخرين، وإلا غضبوا علانية، أو حقدوا سراً على الطبقة المدللة. الذين يتمتعون بالحياة الناعمة، والمكاسب الكبيرة في أجهزة الحكم والمؤسسات المؤممة ونحوها.”[8]

توفير الأمن لهم 

الأمن والأمان مطلب كل إنسان، وهو في الإسلام حق مكفول لكل مسلم، فمن حق المسلم أن يعيش آمناً ويحيا حياة آمنة. بل إن من مقاصد الشريعة الإسلامية تأمين المسلم في دينه ونفسه وعقله وعرضه وماله، فكانت هذه الكليات الخمس من مقاصد الشريعة التي جاءت الشرائع السماوية لحفظها. ففي الحديث عن النبي r: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ). وحفظها يقع على الحاكم المسلم لأنه المسئول الأول أمام الله، يقول الدكتور عبدالكريم زيدان: “ومن واجبات الخليفة المهمة، ومن واجبات الحكام المسلمين جميعاً إشاعة الأمن والاستقرار في دار الإسلام حتى يأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم وينتقلوا في دار الإسلام آمنين مطمئنين.”[9]. ويقول الدكتور الوكيل: “وتأمين الناس على عقيدتهم وعلى أموالهم وأنفسهم وأعراضهم من مهمة الحكومة الإسلامية، فإنه من حق كل فرد يعيش في كنف الإسلام، ويستظل بظل دولته أن يكون آمناً على كل ما ذكرناه، لا يتعرض له أحد، في شيء منها إلا بحقها، وقد بين الإسلام هذا الحق وحدده، فلا يجوز تجاوزه.”[10]

ولكننا ابتلينا بمن يرى خلاف ذلك من الحكام، لأن غايته ليست القيام بما أوجبه الله عليه من توفير الأمن لرعيته، بل البقاء على عرشه لفترة طويلة ما أمكنه ذلك ليتسنى له التحكم والسيطرة على المجتمع المسلم، فيسعى بشتى الوسائل على إثارة الفتن والتحريض بين فئات المجتمع، حتى تظل هذه الفئات في حالة ضعف، ويتكمن هو من الريادة والسيادة عليهم. وهذا مخالف لما أجبه الله عليه من توفر الأمن والأمان لرعيته في أنفسهم، فيصون الأنفس ويحفظها من اعتداء أو خطر قد يهددها حتى يأمن الناس على أنفسهم. يقول الله تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} المائدة32، وفي الحديث يقول النبي r: (لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مؤمن بغير حق) رواه ابن ماجة، ويقول: (لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً) رواه الإمام أحمد والترمذي، ويقول أيضاً: (من قتل نفسا معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة) أخرجه النسائي وأبو داود، ويقول: (من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله يوم القيامة) رواه الطبراني.

بل من واجبات أيضاً أن يوفر الأمن والأمان والسلامة لرعيته في أموالهم، فيحفظها لهم، ويقوم بما استرعاه الله عليه فيها فيضعها في مواضعها، ففي الحديث: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ) وهذا يدل على أن لمال المسلم حرمة كما أن للنفس حرمة لا يحق لأحد أن ينتهكها.

 وللأموال العامة حرمة أيضاً، لأن للفرد فيها نصيب، فلا يحق للحاكم أن يتصرف فيها إلا بالحق. وفي الحديث عن خَوْلَةَ بِنْتِ عامِرٍ الأَنْصَارِيَّةِ، وَهِيَ امْرَأَةُ حمْزَةَ رضي اللَّهُ عنه وعنها، قالت: سمِعْتُ رسولَ اللَّه r يَقُولُ: «إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ[11] فِي مالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَـقٍّ فَلهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامةِ» رواه البخاري.ولنسمع إلى عمر بن الخطاب t وهو يتحدث عن الأموال العامة، ومن هو أحق بها من المسلمين، فعن مالك بن أوس قال: كان عمر يحلف على أيمان ثلاث يقول: (والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد، ووالله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب، إلا عبدا مملوكا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقَسْمَنا من رسول الله r، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، ووالله لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء من هذا المال وهو يرعى مكانه)، وكان يقول: (بخ بخ بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها[12]).[13]

وعلى الحاكم أن ينزل نفسه من الله منزلة والي اليتيم من ماله، يقول الله تعالى: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} النساء2، ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} النساء 10. يقول عمر بن الخطاب t: (إني أنزلت نفسي من الله منزلة والي اليتيم من ماله: إن أيسرت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإن أيسرت قضيت)[14]، ويقول: (أنزلت مال الله مني بمنزلة اليتيم، فإن استغنيت عففت عنه، وإن افتقرت أكلت بالمعروف)[15].

وكان t يَعلم أن من واجبه أن يحافظ على هذا المال من الضياع لأنه مال الرعية، فقد قَدِم عليه وفد من العراق فيهم الأحنف بن قيس في يوم صائف شديد الحر، وعمر معتجر(معمم) بعباءة يهنأ بعيراً من إبل الصدقة (أي يطلبه بالقطران) فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير، فإنه إبل الصدقة، فيه حق اليتيم والأرملة والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين.. فهلا تأمر عبداً من عبيد الصدقة فيكفيكه؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف؟ إنه من ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده في النصيحة وأداء الأمانة.[16]

وقد كان الخلفاء الراشدون لا يعطون أحداً من مال المسلمين إلا بالحق، حتى وإن كان أقرب الناس إليهم، فهم يعلمون أن في ذلك خيانة للأمة المسلمة، وهم يخشون أن يلقوا ربهم بهذه الصفة. ذكر أصحاب السير أن صهراً لعمر قدم عليه، فطلب منه أن يعطيه من بيت مال المسلمين، فانتهره عمر، وقال: أردت أن ألقى الله ملكاً خائناً؟ فلما كان بعد ذلك أعطاه من صلب ماله عشرة آلاف درهم.[17] وهذا علي t كان يخشى أن يكون سارقاً لهذه الأموال إن أعطى من لا يستحق من أقاربه، أخرج ابن عساكر عن حميد بن هلال أن عقيلاً بن أبي طالب سأل علياً، فقال: إني محتاج وإني فقير فأعطني، فقال: اصبر حتى يخرج عطائي مع المسلمين فأعطيك معهم، فألحّ عليه. فقال لرجل: خذ بيده وانطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل: دق هذه الأقفال، وخذ ما في هذه الحوانيت، قال: تريد أن تتخذني سارقاً؟ قال: وأنت تريد أن تتخذني سارقاً؟ أن آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم.[18]

ومن حق المسلمين أيضاً أن يأمنوا على أعراضهم. وهذا من واجبات الحاكم، فعليه أن يحفظ أعراض المسلمين، وأن يحد من انتشار الفاحشة، وأن يمنع من يسعى لإشاعتها في المجتمع المسلم، يقول تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ …{ (النور: 19). ويمنع التجسس على عورات المسلمين، وكشف أستارهم، يقول الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا….{ (الحجرات: 12)، يقول رسول الله r من حديث أبي هريرة: )إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا إِخْوَانًا( متفق عليه، ويقول: )إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ( رواه أحمد وأبي داود. وقد اشترى عمر بن الخطاب أعراض المسلمين من الحطيئة بثلاثة آلاف درهم، فقال الحطيئة:

وأخذت أطراف الكلام فلم تدع شتماً يضر ولا مدحاً ينفعُ
ومنعتني عرض البخيل فلم يخف شتمي وأصبح آمناً لا يفزعُ [19]

بل ويجب عليه أن يحفظ حقوق الذميين وأموالهم، فقد توعّد رسول الله r من يعتدي على الذميين أو على حقوقهم أو أموالهم بقوله: (من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة) رواه أبو داود، فكيف إذا كان مسلماً له حق الإسلام ؟!

اختيار البطانة الصالحة

يستحب لأهل العلم والرأي والفضل أن يُصلّوا خلف الإمام حتى يكونوا أقرب إلى الإمام إن عرض عليه عارض. جاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما نصه: “كما يستحب أن يلي الإمام في صلاة الجماعة أهل الفضل والعلم، وكبير القوم، لقوله r: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى…) رواه مسلم. في هذا الحديث يحث النبي r أهل الفضل وأهل العلم، وأهل الرأي على أن يكونوا خلف الإمام، ليذكروه إذا نسى، وليخلفوه في الإمامة إذا عرض له عارض. وليس المعنى أن يُترك مكانٌ خلف الإمام للعلماء أو لأهل الفضل ونحوهم، ولا أن يُطرد عنه من سبق إليه.”[20]

وكذلك الحال بالنسبة للحاكم المسلم، فقد حرص الإسلام على التذكير بأهمية اختيار البطانة الصالحة التي تعين الحاكم في حكمه. وقد أشارا النبي r إلى أهمية ذلكبوضوح، فعن أبي سعيدٍ وأبي هريرة – رضي اللَّه عنهما – أن رسولَ اللَّه r قال: «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِن نبي، ولا استَخْلَف مِنْ خَليفَةٍ إلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوفِ وَتحُضُّهُ عليه، وبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وتحُضُّهُ عليهِ والمَعصُومُ من عَصَمَ اللَّهُ» رواه البخاري.

ولأن الحاكم بشر، فإنه – لا شك – سيتأثر بمن حوله. فإما أن تكون بطانته بطانة السوء، يتصفون بالسلبية والاتكالية والتطفل والحيل والدهاء والمكر غير المشروع، لا يعرفون إلا مصالحهم الذاتية، ولا يفكرون إلا في رغباتهم البهيمية، وإما أن تكون بطانته بطانة صالحة، يتميزون بالحنكة والحكمة والإخلاص، فينصحون ويشيرون بما ينفع الأمة ويحقق لها الخير والفلاح. وقد أشار النبي r إلى إمكانية تأثر المرء بمن حوله، فعن أُمِّ سَلَمةَ رضي اللَّه عنها، أَن رسول اللَّه r قال: «إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحنَ[21] بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض، فأَقْضِي لَهُ بِنحْو ما أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» متفق عليه. وقد طلب مؤسى عليه السلام من ربه أن يجعل هارون أخاه وزيرا له حتى يعينه على المهمة التي كلفه الله بها، قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴿٢٩﴾ هَارُونَ أَخِي ﴿٣٠﴾ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴿٣١﴾ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴿٣٢﴾ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ﴿٣٣﴾ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴿٣٤﴾ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ﴿٣٥﴾} (طه 29 – 35). ولهذا ينبغي للحاكم أن يحيط نفسه ببطانة صالحة، تذكره إن نسي، وتعينه إن ذكر. فعن عائشة رضي اللَّه عنها قالتْ: قال رسولُ اللَّه r: «إذا أرَادَ اللَّه بالأمِيرِ خيراً، جَعَلَ له وزيرَ صِدقٍ، إن نَسي ذكَّرهُ، وَإن ذَكَرَ أعَانَهُ، وَإذا أَرَاد بهِ غَيرَ ذلك جعَلَ له وَزِيرَ سُوءٍ، إن نَسي لم يُذَكِّره، وَإن ذَكَرَ لم يُعِنْهُ». رواه أبو داود بإسناد جيدٍ على شرط مسلم.

ولنا في عمر بن عبد العزيز قدوة حسنة، فها هو ذا يعلن شروطه لمن أراد أن يصحبه، فمنذ الساعات الأولى لتوليه الخلافة يعلن في الملأ “أن من أراد أن يصحبنا، فليصحبنا بخمس: يوصل لنا حاجة من لا تصل إلينا حاجته، ويدلنا من العدل إلى ما لا نهتدي إليه، ويكون عوناً لنا على الحق، ويؤدي الأمانة إلينا وإلى الناس، ولا يغتب عندنا أحد. ومن لم يفعل فهو في حرج من صحبتنا والدخول علينا”[22].

وها هو ذا يبحث لنفسه من تتوفر فيه تلك الشروط الذي ذكرها، فيعينه على الحق ويرده إليه. فيجدها في عمرو بن مهاجر، “فيلتفت إليه قائلاً في نبرة توسل ورجاء: “يا عمرو! إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلابيبي، ثم هزني، ثم قل لي: ماذا تصنع؟!”[23]

معاملة الناس بالتساوي

في صلاة الجماعة، يقف المصلون خلف الإمام متساوين، لا فرق بينهم ولا تمايز في أداء الواجبات والأعمال. فلا تجد في صلاة الجماعة صفوفاً خاصة بالفقراء وأخرى بالأغنياء، ولا تجد صفوفاُ للسادة دون العامة، ولا للحكام دون المحكومين، ولا للبيض دون السود. كما أنك لا تجد تميزاً في حركات الصلاة، فالجميع يقفون صفوفاً متراصة – غنيهم وفقيرهم، رئيسهم ومرؤوسهم، أبيضهم وأسودهم – وكلهم يركعون ويسجدون في وقت واحد بلا تمييز ولا تفاضل. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “وأما المساواة، فأي مساواة أوضح من تلك التي نراها في الصفوف المتراصة في المسجد؟ الأمير إلى جانب الخفير، والغني بجوار المسكين، والسيد ملاصق للخادم، والعالم الفيلسوف وعن يمينه عامل، وعن شماله فلاح؟!”[24]

وهذه المساواة ليس مقتصرة على الصلاة، بل ساوى الإسلام بين الناس في جميع الأحوال، فالجميع في الإسلام متساوون، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، يقول تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{ الحجرات13، ويقول رسول الله r: (أيها الناس، إنكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى).  ويقول: (كلكم لآدم، وآدم من تراب).

وعلى هذه القاعدة ينبغي أن يسير الحاكم المسلم، فيعدل في النظر إلى رعيته، ولا يجعل للجنس أو اللون أو المنطقة أو القبيلة أو الانتماء ميزاناً أو اعتباراً للتعامل معهم أو سبباً للتفاضل بينهم في الحقوق والواجبات أو في الجزاء والعقابأو في تولية المناصب. والحاكم الذي يزن أعمال الناس ويتعامل معهم بناءً على طبقاتهم الاجتماعية أو ألوانهم أو انتماءاتهم أو أي اعتبارات وموازين غير ميزان التقوى إنما يقود أمته إلى الهلاك، ويحدد نهايتها بهذا التصرف، وهذا ما حذر منه النبي r حيث فقال: «إنما أهْلَكَ من قبلكُم أنَّهُم كانُوا إذَا سرقَ فِيهِم الشَّريفُ تَركُوهُ، وإذا سرق فِيهمِ الضَّعِيفُ أَقامُوا عليهِ الحدَّ، وايْمُ اللَّه، لو أنَّ فاطمَة بنت محمدٍ سرقَتْ لقَطَعْتُ يَدهَا» متفقٌ عليه.

ولننظر إلى عمر بن الخطاب t وهو يساوي بين رعيته، ويرى الناس أمام الحق سواسية، فلا فرق عنده – في إقامة العدل – بين واليه وأحد رعاياه. فها هو ذا يطبق قاعدة المساواة في جبلة بن الأيهم – أحد ملوك الغساسنة – مع أعرابي، فبينما كان جبلة بن الأيهم يطوف بالكعبة، إذ بهذا الأعرابي يدوس على إزاره عن غير قصد، فيلتفت إليه جبلة فيلطمه على خده، فيذهب هذا الأعرابي إلى عمر فيشكوه إليه، فيسال عمر جبلة: أحقاً ما يقول؟ فيجيبه جبلة: نعم، ولولا أننا أمام بيت الله لقطعت أنفه بسيفي هذا. فيسأله عمر: ولم؟ فيرد عليه جبله: لأنه داس على إزاري وأنا أطوف بالبيت. عندها يصدر عمر حكمه: إما أن تعتذر له وتترضاه، وإما أمرته أن يلطمك. فدهش جبله من هذا الحكم، ويتساءل: كيف تسوي بيني وبينه؟! إنما أنا ملك وهو سوقة! فيخبره عمر بالحكم الإسلامي – الذي يرفضه كثير من الطغاة المستبدين، ويجهله كثير من المسلمين: إن الإسلام سوى بينكم، فلا فرق بين الملك والسوقة. فقال جبله: أجلني حتى أختار. فأجله عمر ثلاثة أيام. فهرب جبلة ليلاً مع حاشيته إلى بلاد الروم.

وهذا حفيده عمر بن عبد العزيز يعلن منهجه في المساواة. قال الأوزاعي: إن عمر بن عبد العزيز كان جالساً في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال: أتحبون أن أُولي كل رجل منكم جنداً؟ فقال رجل منهم: لم تعرض علينا ما لا تفعله؟ قال: ترون بساطي هذا؟ إني لأعلم أنه يصير إلى بلى وفناء، وإني أكره أن تدنسوه بأرجلكم فكيف أليَكم أعراض المسلمين وأبشارهم؟ هيهات لكم هيهات، فقالوا له: لم! أما لنا قرابة؟ أما لنا حق؟ قال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء، إلا رجلاً من المسلمين حبسه عني طول شقته.[25]

ويكتب إلى عامله على المدينة: “إياك والجلوس في بيتك” ثم ما يلبث أن يصرخ به: “اخرج للناس، فآس بينهم في المجلس والمنظر، ولا يكن أحد من الناس آثر عندك من أحد. ولا تقولن هؤلاء من أهل بيت أمير المؤمنين، فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي سواء. بل أنا حري أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين أنهم يقهرون من نازعهم!”[26]

قد غابت هذه المفاهيم عن الحاكم في أيامنا هذه، كما غابت عن مجتمعاتنا، لكثر ما يمارس من النقيض تماما، فالمساواة في الحقوق والواجبات لم تعد لها مكان إلى القصص الخيالية أو أحلام اليقظة، بل أن المجتمع قد استسلم لهذا المفاهيم المنحرفة، وصار يتعامل وفقا لذلك، فيقر الحاكم فيما يفعل، بل وينهر ويوبخ من يخالف ويعترض على التصرفات المنافية لتعاليم دين الله من العلماء والدعاة والمصلحين، وهذا من نتائج جهلنا بديننا، وغفلتنا التي صرنا فيها. ومن شأن صلاة الجماعة – إذا ما أديت بحقها – أن تصحح هذه المفاهيم، وتعيدنا إلى جادة الصواب.


[1] ) صفي الرحمن المباركفوري – الرحيق المختوم صـ163.

[2] ) انظر سيرة ابن هشام – تحقيق كامل محمد عويضة الجزء الأول صـ142.

[3] ) محمد الغزالي. خلق المسلم صـ190.

[4] ( د. عبدالكريم زيدان – أصول الدعوة صـ233.

[5] ) أنظر تاريخ عمر بن الخطاب للإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي صـ95.

[6] ( د. عبدالكريم زيدان – أصول الدعوة صـ234.

[7]) الإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي – تاريخ عمر بن الخطاب صـ140.

[8] ) د. يوسف القرضاوي – حتمية الحل الإسلامي 2 – الحل الإسلامي فريضة وضرورة – صـ206. (بتصرف)

[9] ( د. عبدالكريم زيدان – أصول الدعوة صـ235.

[10] ) د. محمد السيد الوكيل. القيادة والجندية في الإسلام. صـ118.

[11] ) يتخوضون: أي يتصرفون.

[12] ) واحدها كردوس، وهي رؤوس العظام، أو ملتقى كل عظمين ضخمين كالركبتين.

[13] ) الإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي – تاريخ عمر بن الخطاب صـ120، صـ87.

[14] ) الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي – تاريخ الخلفاء صـ113.

[15] ) الإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي – تاريخ عمر بن الخطاب صـ123.

[16] ) د. علي محمد محمد الصلابي – عمر بن الخطاب صـ133.

[17] ) المصدر السابق صـ141.

[18] ) الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي – تاريخ الخلفاء صـ162.

[19] ) الإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي – تاريخ عمر بن الخطاب صـ95.

[20] ) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (8/16-18)

[21] ) «أَلْحَنَ » أَيْ: أَعْلَم.

[22] ) د. عماد الدين خليل – ملامح الإنقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز صـ69.

[23] ) المصدر السابق صـ76.

[24] ) د. يوسف القرضاوي – العبادة في الإسلام صـ230.

[25] ) الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي – تاريخ الخلفاء صـ188.

[26] ) د. عماد الدين خليل – ملامح الإنقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز صـ73.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى