المبحث الثاني: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بإمام المسلمين (الحاكم) (3)
المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني
الرفق بالناس من غير لين
لا شك أن في صفوف المصلين الضعيف والسقيم والكبير وذا الحاجة. والأصل أن الإمام يعلم حال من خلفه من المصلين، وهنا يندب للإمام أن يخفف في صلاته – من غير نقصان – مراعاة لأحوال من خلفه من المصلين، وذلك لحديث أبي هريرة t أن النبي r قال: “إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف، والسقيم، والكبير. وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء” رواه البخاري. وعن أنس بن مالك t، أن النبي r قال: “إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه” رواه البخاري.
بل إن رسول الله r غضب غضباً شديداً عندما علم بأن هناك من يشق على المصلين بإطالة الصلاة، وسماهم “منفرين“، فعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدريِّ t قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ r، فقال: إنِّي لأتَأَخَّر عَن صَلاةِ الصُّبْحِ مِن أجْلِ فلانٍ مِما يُطِيل بِنَا، فمَا رأيت النبي r غَضِبَ في موعِظَةٍ قَطُّ أَشدَّ ممَّا غَضِبَ يَومئذٍ، فقال: «يَا أَيهَا النَّاس: إنَّ مِنكم مُنَفِّرين. فأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَليُوجِز، فإنَّ مِنْ ورائِهِ الكَبيرَ والصَّغيرَ وذا الحَاجَةِ» متفق عليه.
والتخفيف – مع التمام – إنما يكون مراعاة لأحوال الناس، ولكن إذا كان الناس يؤثرون التطويل، وليس فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة، جاز للإمام أن يطوّل، قال النووي: (قال العلماء: كانت صلاة رسول الله r تختلف في الإطالة والتخفيف باختلاف الأحوال، فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل ولا شغل هناك له ولا لهم طوّل، وإذا لم يكن كذلك خفف، وقد يريد الإطالة ثم يعرض ما يقتضي التخفيف كبكاء الصبي ونحوه. وينضم إلى هذا أنه قد يدخل في الصلاة في أثناء الوقت فيخفف. وقيل: إنما طول في بعض الأوقات وهو الأقل وخفف في معظمها، فالإطالة لبيان جوازها والتخفيف لأنه أفضل…)[1].
أما بالنسبة للحاكم المسلم فمسئوليته تحتم عليه أن يرفق برعيته، لأنه مأمور بإلانة الجانب لهم والتواضع لهم. قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} الحجر88، والحاكم سيقف بين يدي الله – عز وجل – يسأله ربه عن رعيته {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} الصافات24. عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: سمِعتُ رسولَ اللَّه r يقول: «كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عنْ رعِيتِهِ: الإمامُ راعٍ ومَسْؤُولٌ عَنْ رعِيَّتِهِ، … الحديث» متفقٌ عليه.
وقد اهتم النبي r بهذا الأمر كثيراً، ونجد اهتمامه r بهذا الأمر واضحا وجلياً عندما نسمعه يدعوا على من ولي من أمر أمته شيئاً فشق عليهم بأن يشق الله عليه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله r يقول في بيتي هذا: «اللهم من وَلي من أمر أُمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به» رواه مسلم.
ولهذا كانت صفة الرفق بالرعية سمة بارزة من سمات الخلفاء الراشدين، بل كانت كتبهم تفوح منها رائحة الرفق بالرعية إن لم تكن صريحة في ذلك. هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t يكتب إلى واليه على مصر مالك بن الاشتر النخعي فيقول: “واعلم يا مالك أني وجهتك إلى بلاد عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض عليهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك.”[2]
والرفق ليس معناه اللين والرقة فحسب – وإن كانت هاتان الصفتان من صفات الوالي – بل لا بد ان يرافقهما حزم في الحق وشدة على الباطل. فقد كان أبو بكر لينا رقيقاً، لكنه كان حازما في الحق. وقد كان عمر شديداً قاسياً، لكنه كان ليناً رقيقاً. وهكذا أضاف أبو بكر إلى رفقه قدراً كافياً من الحزم، وأضاف عمر إلى شدته قدراً كافيا من الرفق. فعن الشعبي وسهل ومبشر بإسنادهم، قالوا: لما سمع الناس قول عمر ورأوا عمله وكان يمشي في الأسواق، ويطوف في الطرقات، ويقضي بين الناس في قبائلهم ويعلمهم في أماكنهم، ويخلف الغزاة في أهليهم، ذكروا أبا بكر والنبي r فقالوا: كان النبي r أعلم بأبي بكر، وكان أبو بكر أعلم بعمر، فجرى أبو بكر وعمر مجرى واحدا. وقد كانوا يخافون من لين هذا ومن شدة هذا، فكان أبو بكر مع لينه أقواهم فيما لانوا عنه وألينهم فيما ينبغي، وكان عمر ألينهم فيما ينبغي وأقواهم على أمرهم.[3]
وللرفق معانٍ عدة:
فالعدل من الرفق
ومن صفات الإمام الرفيق برعيته الشفيق عليهم أنه قوّام بالقسط يخشى الظلم، يمتثل أمر الله القائل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}النساء58، والقائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}النساء135، والقائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}المائدة8.
والعدل من أوجب واجبات الحاكم المسلم لأنه من أساسيات قيام الدولة المسلمة. يقول الدكتور زيدان: “أول مظهر لسياسة الدنيا بالدين، الالتزام التام بالعدل في إدارة شؤون الناس وعدم الحيدة عنه مطلقاً، لأنه هو الأساس الذي لا قيام لدولة بدونه ولا بقاء لأمة بفقده.”[4]
ولقد جاء الإسلام ليعمق في نفوس المسلمين أهمية العدل، فجعل جزاء الإمام العادل كبيراً. فالإمام العادل في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، فعن أبي هريرة t، عن النبي r قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّه في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: إمَامٌ عادِلٌ، وشَابٌّ نَشَأَ في عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، ورَجُلٌ مُعَلَّقٌ قَلبُهُ في المَسَاجِدِ، ورجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه، اجتَمعَا عليهِ، وتَفرَّقَا علَيهِ، ورجُلٌ دعَتهُ امرَأَةٌ ذَاتُ مَنصِب وجمَالٍ، فقَال: إنِّى أَخَافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصدقةٍ، فَأَخْفَاها حَتَّى لا تَعلَمَ شِمالُهُ ما تُنفِقُ يميِنُهُ، ورَجُلٌ ذَكَر اللَّه خَالِياً فَفَاضَتْ عينَاهُ» متفقٌ عليه. وأخبر النبي r – وهو الصادق المصدوق – بأن الإمام العادل على منبر من نور يوم القيامة. فعن عبد اللَّهِ بنِ عمرو بن العاص رضي اللَّهُ عنهما قال: قال رسولُ اللَّهِ r: «إنَّ المُقسِطينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلى مَنابِرَ مِنْ نورٍ: الَّذِينَ يعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأَهليهِمْ وما وُلُّوا» رواهُ مسلم. وبشر الإمام العادل بدخول الجنة، فعَنْ عِيَاضِ بن حِمار t قالَ: سمِعْت رَسُول اللَّهِ r يقولُ: «أَهْلُ الجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: ذُو سُلْطانٍ مُقْسِطٌ مُوَفَّقٌ، ورَجُلٌ رَحِيمٌ رَقيقٌ القَلْبِ لِكُلِّ ذِى قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيالٍ» رواهُ مسلم. وقد تجتمع كل هذه الصفات في الإمام، فبالإضافة إلى عدله هو رقيق القلب لكل مسلم، عفيف متعفف عن أموال المسلمين.
وترك العدل ينافي الرفق، بل ويدخل في الظلم وفيه المشقة للمسلمين، وبهذا يصير الإمام من زمرة الظالمين حينما يترك العدل، ويدخل ضمن من دعا عليهم رسول الله r بالمشقة: «اللهم من وَلي من أمر أُمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه» رواه مسلم.
وها نحن نجد عمر بن الخطاب t – على ما كان عليه من الشدة –رحيم بشعبة. خطب فيهم ذات يوم فكان مما قاله: “اعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد، فأنا أليَن لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا أو يتعدى عليه، حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف”.
ونسمعه وهو يقول أيضاً: “والله لقد لان قلبي في الله حتى هو أليَن من الزبد، ولقد اشتد قلبي في الله حتى لهو أشد من الحجر”.[5]
“وساق الطبري ما دار بين الإمامين علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان – رضي الله عنهما – من المعاتبة اللطيفة والتناصح الأخوي، فكان مما قاله الإمام علي لعثمان – رضي الله عنهما: “إن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي وهَدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة متروكة، فو الله إن كلاً لبيّن، وإن السنن لقائمةٌ لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضَلّ وضُلّ به، فأمات سنة معلومة، وأحياء بدعة متروكة. وإني سمعت رسول الله r يقول: “يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في جهنم …”[6]
والعدل هو حصنٌ للأمة، به تُحمي الأمة من الانهيار والتداعي. كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: (إن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمّها به فعل)، فكتب إليه عمر: (إذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم، فإنه مرمتها والسلام.)[7]
وليس غير العدل والحق يُصلح الرعية ويُصلح أخلاقهم. كتب الجراح بن عبدالله إلى عمر بن عبدالعزيز: أن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك. فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغني كتابك، تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم، والسلام.”[8]
ولا ينبغي للحاكم أن ينتظر حتى يأتي من يطلب منه إقامة عدلٍ أو إيصال حقٍ أو إنصاف مظلومٍ، بل عليه أن يبادر إلى ذلك لأنه من صميم مسؤولياته وواجباته. “فهذا عمر بن عبد العزيز تعلو جبهته سحابة من الغمّ – وهو لا يزال في الدقائق الأولى لتوليه الحكم – فيسأله مولاه عن هذا الاكتئاب في اليوم الذي يصفق له الحكام العاديون! فيجيبه عمر: (ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه، غير كاتب إليّ فيه ولا طالبه مني)”[9]
والعدل يتضمن أموراً كثيرة. “فالعدل يتضمن إعطاء كل إنسان حقه وعدم ظلمه في شيء. فمن الظلم تكليفه بما لا يجب عليه شرعاً أو أخذ ماله بغير وجه حق أو منعه ما يستحق، وهذا ما أشار إليه الفقهاء. فالفقيه الماوردي يقول – وهو يعدد واجبات الإمام – (وجباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف، وتقدير العطاء وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقصير فيه، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير). والعلامة ابن خلدون يوضح الظلم الممنوع فيقول: (ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب، كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ ملك أحد، أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباية الأموال بغير حقها ظلم، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة. ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران). وعلى هذا يجب على الخليفة أو رئيس الدولة أو الحاكم أياً كان مسماه أن يقوم بما يلزم لتحقيق العدل ومنع الظلم.”[10]
[1] ) شرح مسلم للنووي (4/145)
[2] ( عبدالعزيز البدري – الإسلام بين العلماء والحكام صـ45.
[3] ) الإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي – تاريخ عمر بن الخطاب صـ83.
[4] ( د. عبدالكريم زيدان – أصول الدعوة صـ233.
[5] ) الإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي – تاريخ عمر بن الخطاب صـ114.
[6] ) صادق إبراهيم عرجون – عثمان بن عفان صـ162.
[7] ) الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي – تاريخ الخلفاء صـ185.
[8] ) المصدر السابق صـ193.
[9] ) د. عماد الدين خليل – ملامح الإنقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز صـ70.
[10] ) د. عبدالكريم زيدان – أصول الدعوة صـ233.