قراءة كتاب

المبحث الثالث: إيحاءات صلاة الجماعة فيما يتعلق بالفرد المسلم كعضو في جماعة المسلمين (3)

المجتمع المثالي الذي ننشده - الفصل الثاني

ثالثاً: الوعي والإدراك

في صلاة الجماعة يقف المسلم واعياً مدركاً لأركان الصلاة وواجباتها وسننها، يعلم ما يجب عليه وما لا يجب. يعلم أن عليه أن يؤدي الصلاة بأركانها وواجباتها وسننها مع الآخرين، وأن يتابع إمامه ولا يسبقه، وأن عليه ألا يرتكب أياً من مبطلات الصلاة كالأكل والشرب والحركة الزائدة. إن وجد فرجة في الصف علم أن من واجبه أن يسد هذه الفرجة، وإن نسي الإمام ذكره، وإن ارتكب – أثناء الصلاة – ما يخل بالصلاة نبهه، فإن أبى فوعيه وإدراكه يمنعه من متابعته في خطأه.

وبهذا الوعي والإدراك استقام أمر الصلاة، وصارت بذلك الانضباط، وبتلك الهيئة التي أبهرت الآخرين، وكانت سبباً في إسلام الكثيرين. ولا يمكن أن تنعقد صلاة الجماعة بدون هذا الفهم وهذا الإدراك.

ولذلك حرص النبي r على تعليم المسلمين الصلاة، فقد كان يصلي أمامهم ويقول: (صلّوا كما رأيتموني أصلي). ورأى رجلاً لا يحسن الصلاة فأمره أن يعيد الصلاة، فعندما رأى أنه لا يجيدها علّمه كيفية الصلاة. وكان يقول قبل الشروع في الصلاة: (سووا صفوفكم) (سدوا الفرج). وصلى ذات يوم فجاء أحد الصحابة فوقف إلى يساره فأداره إلى يمينه، ثم جاء آخر فدفعهما إلى وراءه. والتبس عليه r – ذات يوم – في قراءته وهو يصلي بالمسلمين، فلم يرد عليه أحد، فلما فرغ من الصلاة قال لعمر: “أشهدت معنا” فقال عمر: نعم، فقال النبي r: “فما منعك أن تفتح علي؟” رواه أبو داود. وهكذا كان النبي r حريص اشد الحرص على أن يكون الوعي والإدراك عند المسلم في صلاته كبيراً حتى يستطيع أن يقوم بالصلاة خير قيام.

وبهذا يمكننا أن ندرك معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ … الآية} النساء43، فقد نهاهم الله – قبل تحريم الخمر- عن شهود الصلاة وهم سكارى. والسكر: هو ذهاب العقل بسبب المسكر، أي أن المرء – في هذه الحالة – لا يستطيع أن يميز أو أن يدرك ما يقوم به أثناء الصلاة، ولا يعرف الواجب من المستحب، وربما يترك ركنا من أركانها وهو لا يدرك، أو يعمل عملاً يبطل الصلاة وهو لا يعي. وهذا ما حرص الإسلام على ألا يكون سواء كان بحالة السكر أو بالجهل.

والوعي والإدراك – أو قُل الفهم السليم – أمر لا بد منه للفرد المسلم في الدولة المسلمة. فالمسلم الواعي ينفع الله به الإسلام والمسلمين، ويكون عاملاً إيجابياً في تقدم وارتقاء المجتمع المسلم. والوعي الشامل هو ما يتميز به المسلم؛ وعي بدينه.. وعي بواجباته وحقوقه.. وعي بما يدور حوله وما يحاك ضده.. والمسلم الواعي لا يرضى أن يكون في مجتمعه (صفراً) لا قيمة له، أو أن يكون عالةً على المجتمع المسلم في كل شيء.

والوعي والإدراك حجاب للمسلم من أن يكون أداة بيد الظلمة والمتجبرين، لتزيين الباطل أو تبرير أفعالهم المنكرة. وقد ذمّ الله أقواماً ممن سبق لا يعرفون واجباً لهم غير إظهار النصيحة الكاذبة للحاكم بغية التقرب منه، قال سبحانه عن قوم فرعون: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ{127} (الأعراف).

وهذا السلوك المذموم ليس من أخلاق المسلم الحق، لأن المسلم الحق لا يرضى أن يكون مصدر تشريع للظالم في ظلمه وطغيانه، ولا أن يكون سبباً – بطريقة أو بأخرى – لتجرؤ الحاكم على دماء الأبرياء وأموالهم وأعراضهم، فهو يعرف أن هذا من سلوك الأقوام الظالمين المستكينين المستسلمين لإرادة الطغاة المتجبرين، قال الله – تبارك وتعالى – عن قوم إبراهيم: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} العنكبوت24، وقال أيضاً: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} الأنبياء68. كما أنه لا يرضى أن يكون أداة بيد أهل الباطل يقوم بتحليل ما حرم الله، “وتبرير الباطل وإلباسه لبوس الحق وتغليفه بما لا ينكشف معه، فإن الباطل لا يروج إلا إذا لبس بلبوس الحق وقد كان ذلك ديدن اليهود: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} آل عمران71، تبرير الباطل بمقالة، بكلمة، بفتوى، بغير ذلك: كما حصل من بعضهم وأفتى بحل بعض أنواع الربا في بعض البلدان.”[1]

لا.. لا.. مطلقاً. ليس هذا هو دور الفرد في الإسلام، ولا هذا واجبه، ولا هذه وظيفته، ولا هذا فهمه لواجباته، ولم يُرِد الإسلام أن يكون أفراده بهذه الصورة المقيتة التي تضر المجتمع ولا تنفعه. عَنْ ابنِ عُمَرَ – رضي اللَّه عَنهُما – أنَّ نَاساً قَالُوا لَهُ: إنَّا نَدْخُلُ عَلى سَلاطِيننا فنقُولُ لهُمْ بِخِلافِ مَا نتَكَلَّمُ إذا خَرَجْنَا منْ عنْدِهمْ؟ قالَ ابْنُ عُمَرَ – رضي اللَّه عنهُمَا: كُنَّا نعُدُّ هذا نِفَاقاً عَلى عَهْد رَسُولِ اللَّهِ r. رواه البخاري.

 بل جاء الإسلام وأوجد الفرد المسلم المدرك لواجباته نحو مجتمعه، الواعي لما يقوم به. وصاغ الشخصية المسلمة التي لا تقبل أن تكون نسخة مكررة من الآخرين، شخصية غير قابلة للذوبان في الغير. قال رسول الله r: “لا يكن أحدكم إمّعة. يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت!! ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم” رواه الترمذي.

ووصْف الإمّعة ممقوت، لأنه يدل على ضعف الشخصية لدى الفرد. والفرد الإمعة هو الذي لا رأي له ولا عزم، مقلد لكل ناعق. وهذا الوصف لا يقتصر على الرعاع من الناس فحسب، فالمتعلم قد يكون إمّعة، وذا الوجاهة قد يكون إمعة، وصاحب السلطة قد يكون إمعة. والمجتمع أيضاً قد ينطبق عليه هذا الوصف، فقد يَكثُر من لا رأي لهم، ومن يتبعون كل ناعق فيصير المجتمع بهؤلاء مجتمعاً إمّعة، وهذا ما يطلق عليه بثقافة القطيع، والتي هذ هدف من أهداف أعداء المجتمعات المسلمة في الداخل والخارج، والتي من خلالها يسعى الأعداد إلى تحويل المجتمعات إلى قطيع يسهل إدارتهم وسياستهم.

والتشريعات الإسلامية تهدف إلى إيجاد الوعي لدى المسلم، وإلى صنع الإدراك الكافي ليقوم المسلم بدوره في مجتمعه. فها هو ذا رسول الله r يحرص على أن يعي المسلم المعنى الحقيقي لكونه مسلماً، فعن عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعاص رضي اللَّه عنهما عن النَّبِيِّ r قال: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ، والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ» متفق عليه. ويوجه المسلم إلى الوقوف الموقف الإيجابي الذي يقوم فيه بنصرة المظلوم ومنع وقوع الظلم. عن أَنسٍ t عن النبي r قال: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً» فقَالَ رَجُلٌ: يَا رسول اللَّه! أَنْصرهُ إِذَا كَانَ مَظلُوماً، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ ظَالِماً كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قال: «تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذلِك نَصْرُهْ» رواه البخاري. وقال رسول الله r: “لا يقفن أحدكم موقفاً يُضرب فيه رجل ظُلماً، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه” رواه الطبراني.

ولا يريد الإسلام من المسلم أن يتصف بالسلبية أو الانتهازية، ولا أن يكون إخوانه المسلمين بضاعته في التقرب إلى الطغاة والمتجبرين، فيقوم بذكر عيوب المسلمين أو ذمّهم أو الشماتة منهم أو التبرؤ منهم تقرباً منه لطاغية أو حاكم ظالم، أو من أجل الحصول على شيء من فتات الدنيا. قال رسول الله r: “من أكل برجل مسلم أكْلة فإن الله يُطعمه مثلها من جهنم، ومن كُسي ثوباً برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مسلم مقام سمعه ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعه ورياء يوم القيامة” رواه أبو داود. كما أن الإسلام لا يقبل من المسلم أن يضعف أمام الطغاة والمتجبرين ويناديهم بألفاظ التبجيل والتكريم والتي نزعها الله منهم في قوله تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} الحج18، لأن في ذلك إغضاب للخالق سبحانه وتعالى، عن بُرَيْدَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «لا تَقُولُوا للْمُنَافِقِ سَيِّدٌ، فَإِنَّهُ إِنْ يكُ سَيِّداً، فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عزَّ وَجَلَّ» رواه أبو داود بإِسنادٍ صحيحٍ.

إن الإسلام لا يرضى– مطلقاً – أن ينتشر الظلم وأن تنتهك حقوق الآخرين ولا يوجد في الأمة رجل رشيد، أو رجال يتصفون بصفات الرجولة والرشد، يقارعون الظلم والظالمين، ويقولون كلمة حق لا يخافون في ذلك إلا الله. ويعيب الإسلام على الأمة أن يكون أفرادها ضعفاء جبناء، يغلب عليهم الخوف من الظالم. ففي الحديث: “إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تُودع منهم” رواه الحاكم وصححه، وأقره المنذري والذهبي.

فالإسلام لا يرضى أبداً أن يتصف المسلم بصفات تدل على عدم إدراكه ووعيه لدينه وواجبه. وإلا فلماذا جاء النبي r، ولماذا بُعث؟! ما جاء إلا ليعلمنا ويزكينا ويطهرنا من مثل تلك الرواسب التي تتنافى مع روح الإسلام وجوهره. قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} آل عمران164.

وقد حكا لنا ربنا – جل وعلى – قصة رجلين من الأمم السابقة، عرف كل واحد منهما واجبه تجاه ربه وأمته، وقام بالدور الذي يجب عليه دون تقصير. الأول هو مؤمن آل فرعون، فهو من أقصى المدينة، دفعه إدراكه لواجبه ووعيه بواقعة أن يسعى إلى موسى ليحذره من المتآمرين عليه، لأنه ناصح أمين، قال تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}القصص20. أما الآخر فهو حبيب النجار، وقد آمن بالرسل، فلما رأى تكذيب قومه لرسل الله، قام بواجبه في النصح والإرشاد، وجاء من أقصى المدينة ليقوم بذلك، قال تعالى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} يس20.

والتاريخ الإسلامي مليء بمثل هؤلاء الأفراد الذين قاموا بواجباتهم تجاه مجتمعاتهم وقادتهم خير قيام. ففي غزوة بدر حينما عسكر المسلمون في أدنى ماء من بدر، جاء الحباب بن المنذر إلى رسول الله r يعرض عليه نصيحته بأدب الجندي مع قائده، فقال: أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس علينا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة! قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، أمض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فنعسكر فيه، ثم نغوّر ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله r: لقد أشرت بالرأي. ثم أمر بإنفاذه، فلم يجيء نصف الليل حتى تحولوا كما رأى الحباب، وامتلكوا مواقع الماء.[2]

وفي خلافة عمر نجد الأمثلة على هذا الوعي كثيرة – قلّ أن نجدها في مجتمعاتنا. “فهذا علي بن أبي طالب t يخبر عمر بن الخطاب t – وقد كان يومها رئيس الدولة الإسلامية – أنه واحد كبقية الناس أمام القانون، ولا يشفع له مركزه وعدالته وتقواه وورعه. فقد وقف عمر بن الخطاب يسأل من حضر مجلسه من الصحابة: “ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية؟” فقال علي: يأتي بأربعة شهداء أو يجلد حد القذف، شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين.”[3]

ونجد أن الفرد في عهد عمر يعرف أنه ليس للحاكم الحق في أن يفضّل نفسه على بقية المسلمين، أو أن يخصها بشيء دون المسلمين. “قال العتبي: بعث عمر إلى الرعية بحلل فقسمها، فأصاب كل رجل ثوب، فصعد المنبر وعليه حلة – والحلة ثوبان – فقال: أيها الناس ألا تسمعون.

فقال سلمان: لا نسمع.

قال: ولم يا أبا عبد الله؟

قال: لأنك قسمت علينا ثوباً ثوبا، وعليك حلة.

قال: لا تعجل يا أبا عبد الله. ثم نادى: يا عبدالله، فلم يجبه أحد. فقال: يا عبدالله بن عمر.

فقال: لبيك يا أمير المؤمنين.

قال: نشدتك بالله، الثوب الذي اتزرت به هو ثوبك؟

قال: اللهم نعم.

فقال سلمان t: أما الآن فقل نسمع.”[4]

حتى وإن بعدت المسافة وكانت هناك عقبات كثيرة، فإن وعي المسلم بحقه يدفعه إلى أن يبذل جهده في الحصول عليه، لأن في التهاون في ذلك فتح الباب على مصراعيه للظلم، وتشجيع للظالم على الاستمرار في الظلم والتمادي في ذلك. فهذا رجل يُظلم عند والٍ من ولاة عمر، ويُؤخذ حقه، ويُضرب بدون وجه حق، وفوق ذلك يُعلن الوالي أنه لن تصله يد العدالة. فيرى هذا المظلوم أنه لو سكت عن حقه لتمادى الوالي في ظلمه، وانتقل إلى ظلم أناس آخرين، فأراد أن يضع لهذا الأمر حداً، وإن تجشم المتاعب وركب الصعاب من أجل ذلك. (عن جرير بن عبد الله البجلي. أن رجلاً كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوت ونكاية في العدو، فغنموا مغنما، فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إلا جميعاً. فجلده أبو موسى عشرين سوطاً، وحلقه، فجمع الرجل شعره. ثم ترحل إلى عمر بن الخطاب حتى قدم عليه، فدخل على عمر. قال جرير: وأنا أقرب الناس من عمر. فأدخل يده فاستخرج شعره ثم ضرب به صدر عمر بن الخطاب، فقال: أما والله لولا …. فقال عمر: صدق لولا النار. فقال: يا أمير المؤمنين: إني كنت ذا صوت ونكاية في العدو.. وأخبره الخبر بأمره، وقال: ضربني أبو موسى عشرين سوطاً وحلق رأسي، وهو يرى ألا يُقتص منه. قال عمر: لَإن يكون الناس كلهم على صرامة هذا أحب إليّ من جميع ما أفاء الله علَي. فكتب عمر إلى أبي موسى: سلام عليكم أما بعد: فإن فلاناً أخبرني بكذا وكذا، فإن كنت فعلت ذلك في ملأ من الناس عزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس فاقعد له في خلاء من الناس حتى يقتص منك. فقدم الرجل فقال له الناس: أعف عنه. فقال: لا والله! لا أدعه لأحد من الناس، فلما قعد أبو موسى ليقتص منه، رفع الرجل رأسه إلى السماء ثم قال: اللهم قد عفوت عنه.)[5]

ولا يزال هناك من الأفراد في المجتمع المسلم – بعد عهد الخلفاء الراشدين – من يمتلكون القدر الكافي من الوعي والإدراك ما يدفعهم للقيام بواجبهم في الوقت المناسب. فقد كان هناك العالم العامل الذي يعرف دوره نحو مجتمعه وحكامه، فينصح لأئمة المسلمين وعامتهم، ولا يماري أحداً، أو يداري أحداً على حساب دينه، أو يسكت عن قول حق حتى وإن كان في ذلك مخاطرة على حياته. لما وُلّي عمر بن هبيرة العراق، أرسل إلى الحسن والشعبي وابن سيرين، والثلاثة من أعلام التابعين، وأئمة المسلمين. فقال لهم: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبدالملك يكتب إليّ في أشياء، إن أطعته فيها أغضبت الله، وإن عصيته لم آمن بطشه وغضبه، فهل ترون لي في متابعتي إياه فرجاً؟ فتكلم الشعبي وابن سيرين كلاماً فيه تقية ومداراة، والحسن ساكت، قال له: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟

قال: أقول يا عمر بن هبيرة، يوشك أن ينزل ملك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك. يا عمر بن هبيرة! إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبدالملك، وإن تطع يزيد لا يعصمك من الله. يا عمر بن هبيرة! لا تأمن أن ينظر إليك الله على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبدالملك – نظر مقت – فيغلق باب المغفرة دونك. يا عمر بن هبيرة! لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة، اشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة. يا عمر بن هبيرة! إن تكن مع الله في طاعته يردّ عنك كيد يزيد بن عبدالملك، وإن تكن مع يزيد بن عبدالملك في معاصيه وكَلَك الله إليه.

فبكى عمر حتى أخضل لحيته، وزاد في إكرامه على الشعبي وابن سيرين.[6]

 ولما بنا عبد الرحمن الناصر لدين الله مدينة الزهراء في بلاد الأندلس، وتفنن في بناءها بالذهب والفضة، وأنفق في بنائها أموالاً كثيرة من أموال المسلمين – وفي ذلك إسراف وتبذير بالمال العام الذي هو ملك الأمة – قام العالم الفقيه منذر بن سعيد – أحد فقهاء قرطبة – فخطب بين يدي الناصر، وتلا قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ{128} وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ{129} وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ{130} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ{131} وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ{132} أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ{133} وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{134} إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ{135}}الشعراء. ثم أخذ يذم الإسراف في الإنفاق والبنيان، وقال مخاطباً الناصر: “ما ظننت أن الشيطان – أخزاه الله – يبلغ بك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكين، مع ما آتاك الله وفضّلك به على العالمين حتى أنزلك منازل الكافرين”

فاقشعر الناصر من هذا، وقال له: أنظر ما تقول.

فقال: نعم. أليس الله تعالى يقول: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ {33} وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ {34}} الزخرف.[7]

وكثيرة هي الأمثلة التي تدل على أن الإسلام يريد من الفرد المسلم – ومن ثم المجتمع – أن يكون ذا وعي وإدراك يجعله يميز بين المعروف وبين ما هو منكر، وبين ما يجب فعله وما لا يجب فعله. يقول سيد قطب – رحمه الله: “بهذا يجعل الإسلام كل فرد أمينا على شريعة الله وسنة رسوله أمينا على إيمانه هو ودينه. أمينا على نفسه وعقله. أمينا على مصيره في الدنيا والآخرة. ولا يجعله بهيمة في القطيع; تُزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع! فالمنهج واضح، وحدود الطاعة واضحة. والشريعة التي تُطاع والسنة التي تُتبع واحدة لا تتعدد، ولا تتفرق، ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون!”[8]

وسهام الأعداء دائما ما توجه نحو وعي المجتمع، يستهدفونه من خلال المناهج الدراسية المضللة، والأفلام والمسلسلات الهابطة، والمجلات والمواقع السامة، ولهم في تحقيق أهدافهم طرق ووسائل شتى، قد يعجز القلم عن حصرها. وهم بين الحين والآخر يقيسون هذا الوعي لدينا، ولهم في ذلك وسائل قياس ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها يستهدف قياس هذا الوعي، فإذا ما لاحظوا غير ما تمنوه، وخروجا عن المخطط الذي رسموه، استبدلوا وسائلهم السابقة بأخرى أشد تأثيراً على المجتمعات، ولهم في ذلك دراسات ومؤلفات. فهم دائما ما يتحينون الفرص للانقضاض على المسلمين في حال أمنوا هذا الجانب، فقد حدث ذلك عندما كانوا يستهدفون الأندلس فأرسلوا من يقيس مستوى الوعي لدى المسلمين هناك، ويرى اهتام شبابهم ورجاله وأطفالهم، حتى ما اطمأنوا إلى غياب الوعي انقضوا على المسلمين، وهجموا عليهم هجمة رجل واحد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


[1] ) الشيخ بشر بن فهد البشر – حقيقة الانتماء.

[2] ) محمد الغزالي – فقه السيرة صـ240.

[3] ) د. محمد عبد القادر أبو فارس. النظام السياسي في الإسلام. صـ43.

[4] ) المصدر السابق. صـ61.

[5] ) الإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي – تاريخ عمر بن الخطاب – صـ 115.

[6] ( علي الطنطاوي – رجال من التاريخ صـ54.

[7] ( انظر الإسلام بين العلماء والحكام – عبدالعزيز البدري صـ74.

[8] ( سيد قطب – في ظلال القرآن – الجزء 2 صـ691.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى